تلعب البيئة السياسية دورها في تشكيل الوعي وأحيانا في تحديد إطاراته الايديولوجية. وتساهم ظروف البيئة في ترتيب أولويات المثقف فإذا كانت مضطربة تنعكس سلبا على أمنه وحياته وموقعه ودوره، وإذا كانت مستقرة تساعده على تنظيم حياته وتوسيع آفاق رؤيته.
إلى البيئة هناك المهنة التي يعتاش منها المثقف. فالحرفة تلعب دورها في صوغ منهج الكاتب (الفيلسوف أو الفقيه) وتؤثر على اهتماماته وترشده إلى تلك القراءات التي تشكل مجتمعة روافد معلومات ومصادر ومراجع للبحث والدراسة.
البيئة والمهنة والفضاءات السياسية تعتبر عادة عناصر يومية من حيث قوة التأثير على المثقف سواء على مستوى تبويب خياراته أو على مستوى ضبط إيقاع اتصالاته بالسلطة ومحيطها.
الفلسفة الإسلامية في المشرق العربي تعرضت للصعود والهبوط بسبب اضطراب البيئة والتصدعات السياسية الجوارية والداخلية التي تعرضت لها الخلافة العباسية ومركزها بغداد. والفلسفة الإسلامية في المغرب العربي تعرضت بدورها للنمو والاضمحلال بسبب اضطراب البيئة وتصدع الإمارات الأندلسية وتفككها بفعل ضربات الفرنجة من الشمال وضغوط القوى القبلية المغاربية الآتية من الجنوب.
الجزء الأول من كتاب «فلسفة مأزومة» أو التاريخ السياسي للفلسفة الإسلامية تناول حياة وبيئات ومهن وفضاءات فلاسفة المشرق (الكندي، الرازي، الفارابي، ابن سينا، المعري، والإمام الغزالي) من العام 180 هجرية (796م) إلى العام 505 هجرية (1111م) لينتهي إلى التأكيد على فشل محاولات التوفيق بين الشريعة (الإسلام) والحكمة (الفلسفة).
الجزء الثاني من الكتاب سيتابع التاريخ السياسي للفلسفة الإسلامية في المغرب العربي من عهد ابن حزم الأندلسي إلى عصر ابن عربي. وهنا الحلقة الأولى.
في جو من التناقضات السياسية والعصبية ولد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم في سنة 384 هجرية (994م) وعاش طفولته الأولى في القصور العامرية الأموية إذ شب في لبلة في حياة مترفة شأن أبناء الوزراء والأمراء، فهو كما يذكر ابن كثير في تاريخه «من بيت وزارة ورياسة ووجاهة ومال وثروة» (جزء 12، ص99). ثم انحطت به الأيام فعاش حياة التشرد والاقتلاع فشهد تفكك نظام القرابات وانعكس الأمر على أعماله وأفكاره ومؤلفاته.
عاش ابن حزم حياة منقسمة بين فترتين وتقلب بين مزاجين بسبب التنازع النفسي بين ميلين: الأول أصله الفارسي وإسلام عائلته الحديث (جده الأدنى) فجده من فارس وهو أول من دخل بلاد المغرب من الفرس. والثاني تأييده السياسي للعصبية العربية الأموية المروانية وصلة جده الأعلى بتلك العصبية وخدمته لها منذ أيام الدولة الأموية في دمشق فهو خدم سفيان بن يزيد مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي.
إلى النزاع النفسي وصعوبة الدمج بين الأصل الفارسي والهوى الأموي تعرضت طفولة ابن حزم إلى تشتت اجتماعي بين رفاهية القصور (ابن وزير في عهد الحاجب المنصور الذي رفع لواء العامرية) وتعاسة السجون والقهر والملاحقة. وأضاف ابن حزم عليها مشكلة عقائدية حين تحول في كبره من المذهب الشافعي (الطريقة الأشعرية) إلى المذهب الظاهري -الذي يدعو إلى الإسلام كما كان عليه منذ نزوله الأول ويرفض التأويل الفقهي أو التفسير بحسب المنطق القياسي- بتأثير من شيخه مسعود بن سليمان بن مفلت (أبو الخيار) الذي أخذ عنه الظاهرية (القول بالظاهر) كمدرسة مبتكرة في الاجتهاد.
عاش ابن حزم لحظات مستقرة في طفولته الأولى ودرس في قرطبة العلوم الشرعية وحفظ القرآن وتفرغ للسياسة باكرا وشارك في حضور ندوات وجلسات في بلاط الحاجب المنصور وابنه المظفر وكان في عمر لا يتجاوز 15 سنة. كذلك درس على عدد من الشيوخ أبرزهم (أبوعمر) أحمد بن محمد بن الجسور وهو أول أساتذته، وعبدالله بن يوسف بن نامي (أبومحمد الرهوني)وعبدالرحمن بن أبي يزيد المصري (أبوالقاسم). ودرس الفلسفة لاحقا على يد ابن الكناني (محمد بن الحسن المذحجي القرطبي) وهو أديب وشاعر وطبيب وله رسائل في الفلسفة، وحفظ الحديث والروايات التاريخية بإشراف علي عبدالله الأزدي (ابن الفرضي) وهو واسع الرواية وحافظ الحديث.
تأسس ابن حزم في حياة القصور وترفها وعلومها وجلساتها التي كانت تجمع مشاهير قرطبة وكبار العلماء والقضاة والفقهاء والأدباء والشعراء. وتكونت بداياته الأولى في مجالات من الحرية وقلة المسئولية والاتكال وعدم التفكير بالمستقبل. وفجأة تطوح مجد الأسرة وانهار العقد بسقوط الدولة العامرية بعد رحيل المظفر وتولي شقيقه عبدالرحمن منصب الحجابة ودخول الأندلس عصر الحروب الأهلية.
كان عهد عبدالرحمن من أسوأ عهود الأندلس ومعه انتهت دولة العامريين ولم يتوقف التدهور إلا بسقوط الإمارة الأموية وتفكك العصبية المروانية. وتلقب عبدالرحمن بأسماء كثيرة مثل ناصر والمأمون ونظر «في الأمور نظرا غير سديد وأنفق الأموال في غير وجهها» ونجح في إقناع الأمير هشام بن الحكم (المؤيد) بتوليته عهد المسلمين من بعده فوافق المؤيد لضعفه فأدى الأمر إلى «انحراف أكابر الأندلس عن عبدالرحمن» (المراكشي، الجزء 3، ص 38). وبدأت ثقة الناس تتزعزع بأهلية المؤيد فاعترض على قراره أهل بيته من المروانيين وغيرهم من بطون قريش. ووقف والد ابن حزم إلى جانب المروانيين في رفض عهد الولاية لعصبية لا صلة لها بالأموية. فزاد من غضب الحاجب المستبد عبدالرحمن على والد ابن حزم وأسرته فطرده من قصره والتجأ إلى المرية أملا بالعودة إلى قرطبة وضاحيتها الزاهرة (مركز الدولة ومؤسساتها الحكومية والمالية).
استمرت قرطبة تتأرجح بين ولاية وأخرى إلى أن قام البربر بثورة واستقدموا القاسم من إشبيلية في سنة 413 هجرية (1022م) لتبدأ ولايته الثانية على المدينة. ولم يستمر أكثر من سبعة أشهر إذ خلعه أهل قرطبة بإجماع منهم فانهزم عائدا إلى إشبيلية في سنة 414 هجرية (1023م) فرفض أهلها استقباله بضغط من قاضيها محمد بن إسماعيل بن عباد فذهب القاسم إلى شريش واستولى بنو عباد على إشبيلية وحكموها إلى أن دالت دولة المرابطين.
استمرت قرطبة بعد خلع القاسم من دون صاحب فنهض عبدالرحمن بن هشام (وهو شقيق محمد بن هشام الملقب بالمهدي وصاحب والد ابن حزم) يطالب بالإمارة فبايعه الناس بين مكره وراض ولقب بالمستظهر بالله في سنة 414 هجرية. واتصل المستظهر بابن حزم الذي انقطع عن السياسة قرابة ست سنوات وضمه إلى بلاطه برتبة وزير.
ما كاد ابن حزم يسترد عافيته السياسية ويجلس على كرسي الوزير حتى قاد ابن عم المستظهر وهو محمد بن عبدالرحمن حركة انقلابية أدت إلى قتل المستظهر بعد 47 يوما من ولايته، وبويع له ولقّب المستكفي بالله. وأول ما فعله أمير قرطبة الجديد إلغاء وزارة المستظهر واعتقال ابن حزم بتهمة التآمر السياسي. ولم يستمر المستكفي طويلا في حكم قرطبة إذ تم خلعه وقتله في سنة 416 هجرية (1025م). وأطلق سراح ابن حزم فقرر مغادرة قرطبة إلى شاطبة والإقلاع نهائيا عن العمل السياسي والتفرغ إلى ميدان الفكر والتأليف. وهناك أخذ بتسجيل مذكراته وتجربته المرة في إطار قصصي روى فيه محطات حياته وصعود عائلته وهبوطها، فأنهى في سنة 418 هجرية (1027م) كتابه «طوق الحمامة» وعالج فيه مسألة «الحب الإنساني» في فترة تشهد الأندلس أقسى حالات القسوة والعنف والقتل والقتل المضاد وانفلات القبائل على القبائل وغدر الأهل بالأهل وصولا إلى اقتتال الإخوة وانقلاب أولاد العم على أبناء العم وانشقاق الأسرة الواحدة إلى فرق موت لا ترحم ولا تراعي حرمة.
غادر ابن حزم قرطبة هربا من السياسة واستمر أهل قرطبة يعانون من صراع السياسة. فبعد مقتل المستكفي استولى بربر قرطبة عليها فدبت الفوضى واستغل يحيى بن علي بن حمود (الملقب المعتلي بالله) الفراغ الأمني فخطط للاستيلاء عليها وضمها إلى دولته التي باتت تشمل مالقة وشريش والمرية وسبتة فتوجه بقواته من مالقة ودخل المدينة وخرج منها بعد سنة في 417 هجرية. واستغل مجاهد وخيران (العامريان) الفرصة فتوجها من دانية ودخلا المدينة وارتكبا مجزرة جديدة ضد بربر قرطبة. واضطر يحيى بن حمود (المعتلي) إلى استعادة المدينة من العامريين وطردهما إلى دانية.
في هذا الفضاء الانقلابي ظهر هشام بن محمد بن عبدالملك بن عبدالرحمن الناصر (شقيق المرتضى المقتول) يطالب بالإمارة الأموية من شرق الأندلس فبايعوه في حصن النبت وأسرع أهل قرطبة باستدعائه خوفا من انتقام البربر بعد المجزرة الجديدة التي ارتكبت ضدهم. وجاء الأمير الجديد وتمت مبايعته بيعة تامة في سنة 420 هجرية (1029م) ولقب نفسه المعتد بالله. وسرعان ما اختلف المعتد بعد سنتين من ولايته مع وزيره حكم بن سعيد القزاز ويُكنى بأبي العاصي. وأقدم المعتد على قتل وزيره بتحريض من ابن عمه أمية بن عبدالرحمن العراقي (من أبناء الناصر) فاستنكر أهل قرطبة الأمر وقاموا بخلعه في سنة 422 هجرية (1030م). وانتهى بذاك الحادث حكم الأسرة الأموية.
أجمع المؤرخون على رواية الحادث لكنهم اختلفوا على تفاصيله، فهناك من ذكر أن أهل قرطبة طردوا أمية بن العراقي وهناك من قال إنه خرج بمفرده وقيل أيضا إنه اختفى في المدينة. بينما انعزل المعتد بالله من دون خلع بيعته وقام الوزراء بإدارة الحكم إلى أن تم الاتفاق على طرد كل الأمويين من قرطبة. ونودي في الأسواق بإخراج كل فرد من بني أمية (المروانية) ومنع أهل المدينة بإيواء أي شخص منهم. وطرد المعتد وتشرد في الأندلس وعاش ذليلا إلى أن توفي سنة 428 هجرية (1036م) في جهة بلدة لاردة. ويعتبر المؤرخ ابن عذاري المراكشي المعتد بالله آخر أمراء بني أمية في الأندلس وبه انقرضت دولتهم على رغم تفككها قبل ذلك بوقت طويل.
بعد الانقلاب الأخير على آخر أمراء الأمويين في قرطبة انتهى عصر «الفتنة الأندلسية» الذي امتد 29 عاما أنهك البلاد والعباد وأسس لعصر «ملوك الطوائف» حين «انتزى كل أحد في موضعه واستبد رؤساء الأندلس وثوارها بما في أيديهم من البلاد والمعاقل وبغى بعضهم على بعض» (المراكشي، الجزء 3، ص 152).
منذ تلك اللحظة شفي ابن حزم من طموحاته السياسية وانقطع أمله بتجديد مستقبله بانقطاع العصبية الأموية - المروانية واضمحلالها وتشتت قواها إلى أفراد فقراء وضعفاء في أنحاء الأندلس. آنذاك انطوى ابن حزم على نفسه وانكب على القراءة والتأليف لتشع أفكاره في ليل طوائف الملوك. فهذا الفقيه الفيلسوف سيكون له شأنه الكبير بعد انتهاء عصر الأمويين وتلاشي العصبية المروانية وتمزقها تحت ضربات «الفتنة» وما آلت إليه من دمار أنتج عصر «ملوك الطوائف» فقرر ابن حزم في ضوء الكارثة الاستقالة من مهنة السياسة والتفرغ إلى حرفة الكتابة.a
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2415 - الخميس 16 أبريل 2009م الموافق 20 ربيع الثاني 1430هـ