لقد هالني المشهد بشكل عام، مشهد "أنفاق لندن" وقد تطايرت أجزاؤها كما النتف الصغيرة التي تحملها الريح العاتية العاصفة من مكان إلى آخر بشكل عشوائي. هالني مشهدها وهي تغرق في بحر من دماء الأبرياء من الناس من مختلف الأعمار والمذاهب والجنسيات والجنس، تناثرت أشلاؤهم هي الأخرى في كل بقعة من ذلك المكان وأماكن أخرى لم تكتشف بعد. هذه الأنفاق التي تغوص في أعماق الأرض ليصلها الإنسان عبر سلالم متحركة أو ثابتة أو مصاعد تهبط وتعلو من دون كلل أو ملل طالما أخذتنا بوسائل مواصلاتها السريعة والنظيفة في آن إلى المواقع التي نريد بسلاسة متناهية وأمان منقطع النظير، وأمتعتنا ممراتها بما تجود به قرائح المبدعين من إبداعات يعرضونها على أرصفتها ومداخلها في كل وقت لقاء عملة معدنية إن جادت بها النفس البشرية.
تساءلت وتساءل معي كثير من البشر بكل تأكيد: ما ذنب هؤلاء البشر لتتناثر أشلاؤهم في كل مكان؟ ما ذنب هذه الحجارة الصماء لتطير مع الريح وتصطدم مع من كان؟ وما ذنب هذه الوسائل الرحيمة لتصبح عدما وأثرا بعد عين؟ وما ذنب الناس الآمنين لتتعطل مصالحهم ويتعرضون للخسائر الفادحة؟ أسئلة كثيرة تناثرت أمام بصيرتي وأنا أتابع نشرات الأخبار، كانت الإجابة عليها صعبة بعض الشيء وكانت بعض الإجابات جاهزة، عادت للذاكرة من حوادث أخرى بصرتها العين وعاشتها الروح وفندتها البصيرة.
الغرب اليوم كما هو بالأمس، يوجه أصابع إتهامه إلى الجماعات الإسلامية وبشكل مباشر إلى "المجاهدين"، ومن حقه أن يفعل ذلك لا لسبب كونه اكتشف أن الإسلاميين المتشددين "المجاهدين" هم الفاعلون الرئيسيون، بل وهنا المصيبة الكبرى أن المتشددين من الإسلاميين يعلنون من دون خوف أو وجل بأنهم هم الفاعلون، وهم في طريقهم لفعل المزيد من هذه الأمور، إن لم تقف الدول الغربية في صف الضعفاء والمحرومين من الناس وخصوصا دولة "إسرائيل". لماذا المزيد نحن نسأل في حق الأبرياء ومن حقنا أن نحصل على الإجابة. ونرفض في الوقت ذاته الإجابة التي تشي بمقولة المعاملة بالمثل.
توماس فريدمان في مقاله الأخير بـصحيفة "نيويورك تايمز" ليوم الجمعة "الثامن من يوليو/تموز الجاري" بعنوان "إذا كانت مشكلة إسلامية فهي إذا بحاجة إلى حل إسلامي"، يقول بالحرف الواحد ما أترجمه على هذا النحو: "قصف بلد آمن ومن أقرب الحلفاء لنا هو بمثابة قصف لبلادنا"، وإن "هذا العمل "تفجيرات لندن" سيزعج الدول الغربية الآمنة التي تعتمد الثقة أساسا للحياة كثقة الإنسان بالجالس إلى جنبه في حافلة أو قطار وبأنه لا يحمل في جيب من جيوبه متفجرات تقضي على حياته وحياة الآمنين من الناس". ويضيف: "إنه عندما تحدث مثل هذه التفجيرات في السعودية مثلا فإنها مشكلة الشرطة السعودية وحدها، ولكن عندما تأتي "القاعدة" إلى أنفاق لندن فإن المشكلة تصبح مشكلة حضارية، ويضحى معها كل مسلم يعيش في لندن مشتبها فيه وبأنه إرهابي وقنبلة متنقلة محتملة. ويذكر فريدمان "إن الهجمات مزعجة جدا وتضرب في الصميم"، لسبب إنه "عندما يأخذ مفجرو قنابل "المجاهدين" جنونهم إلى قلب مجتمعاتنا المفتوحة، التي لن تبقى كذلك مرة أخرى مطلقا مفتوحة تماما"، "يفقد جميعنا الحرية التي نتمتع بها، وهذا بالضبط ما حلم به أسامة بن لادن، وهو قد خلق هوة كبيرة بين الشرق والغرب". ويشير إلى أن هذه اللحظة من التاريخ هي بكل تأكيد "لحظة حرجة، وعلينا جميعا أن نعمل ما بوسعنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هدم الصرح الحضاري. غير أن المسألة غاية في الوعورة لأنه لم يعد هناك من بؤر يمكن قصفها بقنابل وصواريخ كروز كما كان في أفغانستان. فتهديد "القاعدة" ليس عموديا كما كان واضحا وجليا، بل هو الآن انتشر بشكل أفقي ومن خلال الإنترنت والخلايا الصغيرة التي لا ترى بالعين المجردة".
وهي حال خطرة، فـ "العالم الإسلامي إذا لم يستطع مكافحة آفة الموت هذه ضمن المجتمع التي يخرج منها فستصبح العلاقات الغربية الإسلامية عرضة لمخاطر عدة وإنفصام كبير جدا. وهذا السرطان المتفشي هناك يجب محاربته من قبل السلطات والشعوب معا، والإنضباط الأعظم لا يأتي من الشرطة وشرطة الحدود بل من الدين والثقافة التي تعتبر مثل هذه الأعمال إساءة للبشرية وقوانينها جمعاء".
بعد هذا الخطاب يذكر فريدمان إنه ليس هناك رجل دين واحد مسلم أدان أفعال بن لادن، ولا يذكر سببا عقلانيا لذلك غير أنه يقارن بين إدانة آية الله روح الله الإمام الخميني لكتاب سليمان رشدي "آيات شيطانية" لما جاء فيه من أغاليط في حق الإسلام، والكتاب أقول أنا في مجمله فاجعة أدبية لما فيه من حشو لمعلومات اقتطفت من دوريات وكتب كما بدا للبعض بشكل منظم؛ وينهي فريدمان مقاله بالقول "إن حافلات باصات لندن ذات الطابقين، وممرات الأنفاق الأرضية في باريس، بالإضافة إلى الأسواق المغطاة في الرياض وبالي والقاهرة، لن تكون آمنة طالما شيوخ الإسلاميين لا يواجهون هذه الأشكال من العنف ضد البشرية، ويدينوا ويعزلوا المتطرفين من وسطهم إلى الأبد".
الكاتب آيان ماك إيون في مقاله "المفاجأة التي توقعناها"، يقول: "في يوم الأربعاء لم يكن مكان على وجه الأرض أفضل من لندن، اللندنيون يحتفلون بفوز مدينتهم باحتضان الألعاب الأولمبية العام ،2012 وفي اسكتلندا أقوى ثماني دول يجتمع رؤساؤها لحل أزمة الفقر في العالم وإيجاد حلول لمعضلات إقتصادية كثيرة. بكل بساطة لندن كانت تطير من الفرحة. كنا قد تخطينا ونسينا هجمات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول وهجمات مدريد، ولم يكن أحد يفكر للحظة واحدة في عدم ارتياد قطارات الأنفاق. غير أنه وللمفاجأة، تم فتح جبهة أخرى وتفجرت أنفاق القطارات يوم الخميس".
أصابع الاتهام جميعها من أصابع كتاب أو اصابع محللين سياسيين أو ساسة ورجال مخابرات جميعها مع استثناءات قليلة تشير إلى "المجاهدين" الإسلاميين تحديدا. وأتساءل قبل أن ألج بشكل أكبر في الموضوع: ماذا لوحدثت هذه الحوادث قبل اتخاذ اللجنة الأولمبية قرارها، هل كان ذلك سيحول القرار لصالح باريس؟ وهل ستتهم باريس بافتعالها هذه التفجيرات؟ هل كان الغرب أو عصاباته ضالعة في اللعبة غير إنها تأخرت بعض الشيء؟ وأين الإيرلنديون وجبهاتهم من كل هذا؟ هل كان يهدف من ذلك وقف زحف الزعماء الثمانية والجيش المصاحب لهم عن القدوم إلى اسكتلندا والتي تبعد عن لندن بمسافة كبيرة ويعطلون بذلك المشروع الحضاري إذا كان هناك ثمة مشروع حضاري تهندست مخططاته؟
الاستثناءات القليلة التي أشرنا إليها سابقا تتمثل في المشكلة الآتية وهي "مواطنوهم المسلمين"، إذ إنهم لا يكتفون بالإشارة إلى أن العدوانية التي تصيبهم في مقتل إلى أناس من خارج مجتمعاتهم بل هم يشيرون من دون تحفظ إلى أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم، وتحديدا إلى رجال ونساء إنجليز من أصل آسيوي أو عربي أو خلافه. "حلفاؤنا هم مشكلتنا" كما يذكر الكاتب بيتر بيرجن "وهو خبير في الشأن البن لادني": "فالخطر الأكبر على الولايات المتحدة لا يأتي من خريجي مدارس الشرق الأوسط، أو من الخلايا النائمة في مجتمعنا، بل من مواطنين لأقرب الحلفاء لنا وتحديدا بريطانيا". ويضيف: "مسلمون بريطانيون، شباب وبشكل مزر يتم إخراطهم في المجتمع، يمثل العاطلون عن العمل بينهم عشرة في المئة وبين الأعضاء الأكبر سنا بلغ 22 في المئة".
إلى جانب ذلك تشير الدراسات الكثيرة إلى مدى غضب الجماعات الإسلامية من الإهمال الذي تلاقيه من الأجهزة بشكل عام. وتشير كذلك إلى إيمانها "بأن الحرب على الإرهاب ما هو إلا حرب على الإسلام". وأشار الكاتب أيضا إلى شريط لأغنية متداولة تقول كلماتها "أو بي إل "بن لادن"" أوه، أوه بن لادن، إسحبني كما النجمة المضيئة في السماء، مثلما دمرنا وفجرنا برجيهما في نيويورك، شدني شدني، إجذبني إليك، ها، ها". ويورد الكاتب ما يفيد أن الولايات المتحدة يتوجب عليها من أجل حماية حدودها وأمنها الداخلي "مراجعة قوانين السفر والإقامة بالنسبة إلى مواطني الدول الغربية وخصوصا بريطانيا التي يتمتع رعاياها بالسفر إلى الولايات المتحدة من دون الحاجة لتقديم طلب بذلك" كما هو الحال بدول غربية أخرى. وهذا بحد ذاته يشكل خطر قدوم أحد "المجاهدين" إلى الولايات المتحدة ويقوم بما قام به من قبله بن لادن وجماعته.
بعد حوادث سبتمبر صرفت دول كثيرة غير الولايات المتحدة والدول الغربية ملايين الدولارات على أنظمة حماية موانئها ومنشآتها العسكرية والعلمية، ويبدو اليوم انها ستصرف أضعافا مضاعة من تلك الأموال على حماية وسائل مواصلاتها الداخلية لتجعلها أكثر آمنا مما هي عليه لضمان حماية المستفيدين منها. وهذا حق مشروع، وهو برأيي أفضل أكثر ألف مرة من ظلم رجل واحد قد يشتبه فيه كأحد "المجاهدين" أو "الغاضبين" على النظم التي لا تراعي حقوق الإنسان وتعتدي على حريته وتعمد إلى إذلاله وإهانته.
نحن كمجتمع بشري لم ننس ما حدث في أنفاق قطارات اليابان وغاز الخردل الذي استخدم يومذاك، ولم ننس الحروب العالمية وكل منعطفات التاريخ الدموية التي راح ضحيتها ملايين البشر. كما إننا هنا في العالم العربي خصوصا لن ننسى جروحنا وشهداءنا، ولن ننس "حلبجة" و"الغازات" التي استخدمت من قبل حكومات معترف بها، ومن المتعارف عليه إنها تعمل تحت ضوء الشمس لحماية أبنائها من كل سوء، والمصيبة الكبرى إننا سكتنا على ذلك، ولربما بارك بعضنا كل تلك الجرائم في حق الإنسانية.
نقول قبل الختام: "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند" أي قبل أن تفعلوا بالأبرياء من المسلمين من مواطنيكم بالدرجة الأولى أشياء لا يرضى عنها القانون ولا العرف الإنساني، ارجعوا إلى تاريخكم وخصوصا تاريخ حروبكم وانظروا ما الفائدة التي جنيتموها من زعزعة رغد عيش مواطنيكم ممن كانت أصولهم تعود إلى البلدان التي تخوضون معها الحرب يومذاك، اسألوا أنفسكم هل جنيتم شيئا ذا فائدة غير الندم والحسرة ومازلتم تدفعون الضريبة الفادحة لكل ذلك. لقد خضتم حروبا ضروسا مع بعضكم بعضا وأنتم اليوم بعد كل تلك الحروب الطاحنة التي حصدت أرواح ملايين من البشر تعودون إلى العقل وتتحدون وتجعلون مصالح الناس فوق كل مصالح أخرى. الحرب اليابانية الأميركية وما صاحبها من محن وما جلبت من رعونة في المعاملة لمواطنين يابانيين أميركان وأميركان لم يفد أحد منها شيئا وأنتم اليوم معهم في شراكة اقتصادية ليس كمثلها شراكة. لذلك ابتعدوا عن ظلم ذوي القربى مواطنيكم مهما كلف الأمر ذلك.
نعرف أن هناك من العرب يصرخ اليوم هناك ساخرا متندرا في العلن بـ "لندنستان، لندنستان" ولكن أليس هذا هو الشيء نفسه ولكن ليس سخرية يومذاك إذ صرخت به الجماعات التي استوطنت الجزائر واعتبروها جزءا لا يتجزأ من الدولة الأم "فرنسا"، بل أليس هو الشيء نفسه للانجليز الذين استوطنوا الهند واسموها "إنجلنديا"، واعتبروها جزءا لا يتجزأ من "بريطانيا العظمى". بل أليس الأمر ذاته للمهاجرين الإنجليز الذين استوطنوا أميركا فأسموها بمسميات تبدأ من "انجلترا الجديدة" إلى "اسكتلندا الجديدا" إلى غيرها من مسميات مأخوذة من البلد الأم؟ لقد استعمرتم بلدان كثيرة وكبيرة، بل بعض منكم فضل البقاء فيها حتى الساعة وآخرون أكثر عنفا لولا حرب التحرير والجهاد الأكبر لما خرجوا.
إنكم شعوب عقلانية مرت بتجارب مريرة، فلا تجعلوا من هذه التجربة القشة التي قصمت ظهر البعير. تذكروا وتذاكروا بالعقل... لعل خيرا يأتي من هذا كله لكم ولنا
العدد 1039 - الأحد 10 يوليو 2005م الموافق 03 جمادى الآخرة 1426هـ