مؤسسات الديمقراطية الأميركية، أصبحت اليوم سلطة ضبط جديدة في المجتمع العربي والخليجي. في خضم برامج وأنشطة هذه المؤسسات تحدث المتناقضات، ولا تستطيع أن تتعامل بحيادية أمام مجمل نتاجاتها وبرامجها، البعض منها يبهجك ببوارق من نور في صورة إنسانية بالغة العذوبة، تستشف منها بدايات جديدة لشعوب احترفت الحياة تحت القهر.
لكنك تقف في لحظة ما، لتستشعر ما وراء الإنسان، فتتذكر أن ثمة سيطرة ومصالح متضاربة، وأن ثمة نسيجا فاسدا خلف كل نفس بشرية كما تذهب الألمانية حنه أرندت، إلا أن السياسة هي السياسة، فضاءات من اللامعقول، أو اللامصدق!
كوبونات الديمقراطية
عندما كشفت فضيحة "كوبونات النفط" كان لزاما على من تلقى هذه الهبات الصدامية من مثقفين وساسة عرب وأجانب تبريرها، ولكننا حين نراقب ذلك الصف الطويل ممن يتلقون "كوبونات الديمقراطية الأميركية" فإننا لا نعجز عن السؤال أو لعلنا نخشاه.
ليس إنسياقا أمام إتهامات العمالة والإنصياع الأعمى للإمبراطورية الكونية "الولايات المتحدة"، وليس حالا من الرفض المطلق للإصلاح الذي يأتي من الخارج، فلست أعاني من نظرية المؤامرة الغربية، كما أني لست ساذجا فأتجه إلى اعتبار الغرب دولا خلعت لباس تاريخ الدول وتشكلاتها وأنماط تغولها، لترتدي لباس "رهبان مؤسسات الخدمة الإجتماعية".
أسئلة بريئة تتصف بالوجع الممزوج بالرغبة الصادقة في المعرفة، أو ملامسة شيء من الطمأنينة المفقودة. ببساطة أكثر، نريد أن نتأكد بما لا يدعو للشك، هل يحق لنا كشعوب عربية أن نحلم بالحرية والديمقراطية من جديد؟!
يشير وائل الحجار في أحدى أهم مقالاته الى هذه الإشكاليات وهي جديرة بالقراءة والمتابعة، فكان مفتاح بحثنا ومرجعنا الرئيسي، فسبرنا مع سبره، باحثين من هنا وهناك في أوراق هذه المؤسسات وأرشفتها المفتوحة عن شيء يدلنا على الحقيقة، على رغم قناعتنا القديمة أن لا حقيقة في السياسة.
"NED"مؤسسة الديمقراطية أم الإنقلابات؟
كانت بداية هذه المؤسسات مع نشأة WACL"الرابطة العالمية لمحاربة الشيوعية" بنشاطاتها الكثيفة في أوروبا الشرقية وافغانستان. ومن ثم انتقل تمويل عمليات الدمقرطة العالمية الى مؤسسة "المحاربون من أجل الحرية"، والتي كان يتزعمها رئيس الإستخبارات الأميركية شخصيا آنذاك وليام كاسي. وأطرف ما قرأته عن المؤسسة أنها وزعت في أفغانستان ملابس قطنية مرسوم عليها صورة بن لادن ومكتوب عليها "إدعموا المقاتل الأفغاني من أجل الحرية، إنه يقاتل من أجلكم!".
بعد فضيحة "إيران غيت" والتي ألقت بظلالها على "الرابطة العالمية لمحاربة الشيوعية"، ظهرت مؤسسة أخرى إسمها NED "المؤسسة الوطنية من أجل الديمقراطية". ومنذ عهد الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان كانت المؤسسة تخوض صراعات الحرب الباردة، فكانت تتلقى دعمها من المخابرات الأميركية مباشرة حتى العام ،1960 وذلك باعتراف وثائق المؤسسة نفسها، فكشوفات المؤسسة تتسم بالشفافية ويستطيع أي مواطن أميركي الإطلاع عليها كونها "مؤسسة وطنية".
أخيرا، دعا الرئيس الاميركي جورج بوش الابن الى زيادة وارداتها مباشرة، ففي خطابه الذي ألقاه بمناسبة افتتتاح معرض ونستن تشرشل بمكتبة الكونغرس في الرابع من فبراير/شباط 2004 قال بوش: "طلبت من الكونغرس مضاعفة موازنة المؤسسة الوطنية لدعم الديمقراطية ورفعها الى 80 مليون دولار. ومهامها الجديدة ستكون تشجيع الإنتخابات الحرة، والسوق الحرة، وإقتصاد السوق، وحرية الصحافة، والحرية النقابية في الشرق الأوسط...". ولقد انتقلت المهمة الرئيسة للمؤسسة من الإهتمام بـ "الحرب الباردة" الى "الحرب على الإرهاب".
المؤسسة الوطنية لدعم الديمقراطية "الأميركية" والتي تستقي أموالها من دافعي الضرائب الأميركيين، قدمت "مليون دولار" للمعارضة الفنزويلية، وكانت تعد لتقديم مليون آخر عشية الإنقلاب العسكري، ترافقها بارجات حربية قبالة شواطئ فنزويلا، لتقديم كل المعلومات اللوجستية للإنقلابيين! وهكذا تكون مقومات نشر الديمقراطية الأميركية في هذه المؤسسة، "رشا تدعمها بوارج حربية!".
ووفقا لجدول خاص أعده الكاتب وائل الحجار فإن NED قدمت هبات كبرى للدول العربية، سواء في قطاعات الصحافة والنشر والأبحاث السياسية والإقتصادية والاحزاب السياسية والنقابات والتربية والشباب، أو عبر منح مباشرة، أو عبر بناتها أو مؤسساتها التابعة "رمزيا لا إداريا"/ NDI,CPI,IRI,FTUT, وغالبا ما تكون هذه الهبات إلى طبقات محددة من المثقفين والصحافيين وطلاب الجامعات وطلاب الدراسات العليا وموظفي الجمعيات الأهلية والبرلمانيين العرب.
العلاقات بين NED وNDI
لابد من الإقرار بوجود علاقة واضحة ومثبتة بين المؤسستين، وأن هذه العلاقة مركزية، وليست قارة في الهامش، وهذا الإرتباط تؤكده شهادة المدير الإقليمي لبرامج الشرق الأوسط في المعهد الوطني الديمقراطي NDI أمام اللجنة الفرعية للأمن القومي في الكونغرس، التي عرض فيها مجمل آرائه الخاصة بشأن تبني الديمقراطية في الشرق الأوسط.
والسؤال: لماذا يتقدم المدير الإقليمي "لز كامبل" بهذه الشهادة إذا كان معهده بعيدا عن المصالح السياسية المباشرة للولايات المتحدة وأمنها الاستراتيجي، كما أنه بماذا نستطيع تفسير هاتين الواقعتين تحديدا:
أولا: في العام 2001 خصصت NED مبلغا قدره 252801 دولار للمعهد الوطني الديمقراطي للعلاقات الخارجية NDI، لصرفها على أنشطة جمعيات غير حكومية لبنانية بهدف تفعيل قدراتها.
ثانيا: في العام 1995 خصصت NED أيضا مبلغا وقدره 89953 دولارا لصالح NDI لصرفها على برامج عمل المنظمات الأهلية في لبنان.
من هنا تتضح لنا مدى متانة العلاقة بين المؤسستين، مما لا يضع أية شبهة في تفنيد أي زعم "مشبوه" بأن البرامج التي تقوم بها مؤسسة NDI هي برامج خارجة عن الإطار السياسي الأميركي، وأنها ليست ذات علاقة بما تفرضه مصالح السياسة الأميركية، وأنها ليست سوى برامج بريئة لتعليم الديمقراطية وطرق الإنتخاب ومتى بالضبط على النواب أن يطلبوا "نقطة نظام"!
وإلا فلماذا يتلقى المعهد هذا الدعم السخي من المؤسسة الأميركية الوطنية الأولى لنشر الديمقراطية. ولماذا يشهد مدير إحدى أهم المناطق الجيوسياسية شهادته الكبرى أمام الكونغرس. هذا ما سيجعلنا على ثقة بأن "برامج الأستذة" التي تقوم بها هذه المعاهد ليست بعيدة عن سياق استراتيجية الحرب والدعاية والتي تقوم عليها السياسة الخارجية الأميركية. بمعنى أن الولايات المتحدة خرجت لنا عنصر الدعاية السياسية لها عبر هذه المؤسسات، والتي تأخذ طابع التعليم والتدريب لشعوب الدول العربية والخليجية على ممارسة الديمقراطية، ولعمري ان من يحتاج إلى الديمقراطية، هو أعرف بها.
من جهة أخرى، لا يمكننا المجازفة بأن لا نعطي صفة السياسي لمجمل تلك "الهبات الديمقراطية" للمؤسسات الخليجية والعربية، والتي في الغالب ما يكون المستفيدون منها بنهم شديد هم طبقة "الطفيليين" على السلطة السياسية العربية الكلاسيكية.
تحليل تقرير NDI للكونغرس
بما أن أكثر برامج NDI تقوم على فلسفة التعليم والتدريب، فلنا أن نشارك المعهد هذه الفلسفة عبر قراءة بسيطة لشهادته على التاريخ، يقول المدير الأقليمي لز كامبل في شهادته "إن الحكومات والحركات المتطرفة لا يمكن كسرها إلا عن طريق ظهور خيار وسطي أو ديمقراطي من شأنه تفتيت الإحتكار السياسي لحركات التطرف، وهذا مثل الذي حدث في الفلبين وتشيلي وكثير من الدول اللاتينية".
ونقول وما هي نتيجة هذا التلفيق السياسي الذي تبنته خيارات ما بعد العولمة الإقتصادية للولايات المتحدة تجاه هذه الدول المذكورة، إننا نلاحظ حالات الفقر في هذه الدول وقد قفزت لأعلى المستويات، ولنأخذ الدولة المدللة للنموذج الديمقراطي الأميركي "البرازيل"، إذ إنخفضت الأجور بالنسبة للعمالة البرازيلية بنسبة تقدر بأربعين في المئة، وازدادت كلفة المعيشة بما يقدر بستين في المئة!
أليست هذه النتائج الكارثية لإستهلاك الدول عبر "دمقرطتها الزائفة" بنماذج تبعث على القلق لدى المتابعين. وكيف لهذا المعهد أن يحاول جر تجاربنا السياسية في الخليج إلى تلك النماذج العتيقة البالية.
ويقول كامبل: "هذه الإستراتيجية تكون مبنية على أساس معرفة وتقوية المعتدلين مثل المتخصصين والأكاديميين والنساء والطلبة وأصحاب المتاجر الذين لو أعطوا الفرصة لكان لهم دور رئيس ومركزي في النظام".
وتتضح هنا أبجديات الليبرالية الجديدة بحذافيرها، فالتركيز قائم والمراهنة فاعلة على مفهوم سلطة السوق الجديد، والذي أكد عليه الرئيس الأميركي في توصيف مهمة NED وأكد أهميته كامبل بوضوح.
إن مفهوم الديمقراطية في السياسة الأميركية يرتبط ارتباطا وثيقا بالسوق وبثقافة السوق. لذلك تركز نصوص الدعوة للديمقراطية في العالم من وجهة النظر الأميركية على عنصري الأمن والسوق، وهذا ما وضحته بإسهاب في سلسلة مقالات نقد الليبرالية الجديدة، أو بمقالة "عسكرة الإقتصاد الكوني"، ويمكن للقارئ المراجعة.
ويؤكد ما أذهب إليه في هذه القراءة، ذلك التقسيم الذي وضعه كامبل في تصنيفه للدول العربية، من بلدان المنفذ "لبنان، العراق، فلسطين"، أو البلدان الإصلاحية أو التحررية "الجزائر، البحرين، الأردن، المغرب، الكويت، قطر"، وأخيرا البلدان السلطوية أو الشبه سلطوية "باقي الدول العربية".
هذا التقسيم يمكننا تفسيره بطريقة أخرى أكثر واقعية، وهي مدى القابلية في كل بلد عربي على الدخول في اللانظام العالمي الجديد، المعتمد على الأمن والسوق الأميركي، فنلاحظ النموذج الأول "الدول الهشة" والجاهزة للتشكيل الإقتصادي والسياسي كيفما تشاء الولايات المتحدة، والمجموعة الثانية هي مجموعة الدول المقبلة بشراهة للأحضان الأميركية سياسيا وإقتصاديا. وأخيرا نجد تلك الدول المستعصية لأسباب متعددة منها ماهو أيديولوجي أو ثقافي عام، وهنا تكون الصورة أكثر وضوحا للقارئ.
ويراهن كامبل على برامج الأستذة والدمقرطة في التجربة المصرية على وجه الخصوص، لكونها "مصر" متمردا مهما وفاعلا، لذلك فهو مؤمن بأن اختراق التجربة المصرية لا يكون إلا من الداخل المصري، عبر تنشيط الحراك السياسي بأقصى قدرة وبجميع الإمكانات المتاحة، وهذا ما دعا وزيرة الخارجية السابقة ورئيسة NDI الحالية مادلين أولبرايت الى مباركة نشأة "حزب الغد" والذي كان شعاره "التغيير".
في الغالب لقد تعلمت هذه المجموعة من المؤسسات الكثير من تجربتها في "اثيوبيا" حين طردت السلطة السياسية الأثيوبية NDI.IRI,IFES في شهر مايو/ آيار الماضي بداعي أنها تعمل هناك بصفة غير شرعية. كما لاقى NDI مضايقات مشابهة في اليمن ،2001 وفي البحرين العام الماضي .2004 لذلك تركز أدبيات هذه المعاهد حاليا في مجملها على إستغلال التموضع المناسب POSITIONING في البلدان التي تحاول اختراقها والعمل فيها.
الإصلاح الأميركي
لاشك ان منظمات مثل وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية "USAID"، والبنك الدولي، ووكالة التنمية الكندية CID، والمركز الدولي لحقوق الإنسان والتنمية الديمقراطية ICHRDD هي منظمات اميركية وكندية تمثل صورة مميزة للعمل الديمقراطي العالمي، وكذلك تتبعها الكثير من الوكالات البريطانية "ويستمنستر" والفرنسية JAURES والهولندية، إلا أن هذه المنظمات تتصف بحياديتها وارتباط مفاهيمها الديمقراطية بمقررات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وبمجمل المنتج السياسي الدولي في التأسيس لمفهوم الدولة وشرعيتها السياسية.
وفي مقال سابق، ذهبت إلى اعتبار الإصلاح من الخارج ضرورة تاريخية لا يمكن إهمالها، ولكننا كشعوب خليجية وعربية نسعى إلى أن تبذل الولايات المتحدة جدية أكبر في دعمها للديمقراطية والحرية لتأسيس مقومات الحكم الراشد، والذي يحقق المصلحة العامة لشعوب المنطقة بما ينعكس إيجابيا على خيارات الولايات المتحدة الأميركية الاستراتيجية في المنطقة.
لسنا في مجمل نقدنا لهذه المؤسسات السياسية نحاول إيصال رسالة رفض لأي إصلاح سياسي في المنطقة العربية، فقط نحن في حاجة إلى إصلاح سياسي جاد، لا يحتمل سياسة التلميذ والأستاذ، أو سياسة الإختزال لمفهوم الإصلاح السياسي في أن يكون "بقاء الدولة آمنة للاستثمارات والمصالح الأميركية فقط". وهذا بالتحديد ما كان يجب أن يشهد به رئيس برامج الشرق الأوسط للمعهد الديمقراطي NDI أمام الكونغرس
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1039 - الأحد 10 يوليو 2005م الموافق 03 جمادى الآخرة 1426هـ