في شهر مايو / أيار الماضي تم الاحتفال في موسكو بحدث مرت عليه ستون عاما: نهاية الحرب العالمية الثانية بعد هزيمة ألمانيا النازية وانتحار هتلر. اطلق على المناسبة شعار: احتفالات النصر وشاركت فيها نخبة من قادة العالم تقدمهم الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش والرئيس الفرنسي جاك شيراك وكذلك المستشار الألماني غيرهارد شرودر الذي يصف علاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنها تزيد عن مجرد علاقة بين زعيمي بلدين صديقين.
احتفالات موسكو بالانتصار على ألمانيا النازية في العام 1945 كانت قمة الجهود التي تقوم بها الحكومة الروسية منذ وقت لإعادة إحياء الستالينية وتأهيلها وإلغاء جميع الأحكام السلبية عليها. قبل أشهر سبقت تاريخ التاسع من مايو وهو اليوم الذي شهدت فيه موسكو احتفالات الانتصار بدأت وسائل الإعلام الروسية بتحريض من القيادة السياسية في نقل صورة للرأي العام أن ستالين ضمن انتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية وأن هذا النصر لم يتحقق لولا حكمته. كما أن روسيا لم تحتل جمهوريات البلطيك وأن معاهدة مولوتوف / ريبنتروب بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا - هتلر لم تكن خطأ فادحا بل كان مناورة سياسية. بينما كان كثيرون يأملون أن تنتهي سياسة تضليل الرأي العام الروسي مع نهاية الاتحاد السوفياتي إلا أن روسيا اليوم تمارسها وكأن رياح البروستريكا "التفكير الجديد" لم تهب على هذا البلد.
بدأت قمة عملية غسيل دماغ الرأي العام الروسي في النصف الثاني من العام .2004 ومازالت مستمرة حتى اليوم. اقترح رئيس مجلس الدوما "البرلمان الروسي" والمقرب من بوتين، بوريس جريسلوف قبل وقت قصير، أن يجري الاحتفال مجددا بعيد ميلاد ستالين. وأن تستغل هذه المناسبة للإشارة إلى الجوانب الإيجابية في تاريخ الزعيم الروسي السابق ودوره في عصر الاتحاد السوفياتي. كأن وسائل الإعلام الروسية التابعة للدولة كانت تنتظر مثل هذا الاقتراح لتبدأ حملة تأهيل ستالين وعودة تمجيد عصر الاتحاد السوفياتي، لكن الهدف الذي ترمي إليه حكومة بوتين ليس حبا بستالين وإنما الهدف الحقيقي هو بيع القرارات التي يتخذها بوتين والتي دعت بعض المعلقين في الغرب إلى اتهام الرئيس الروسي بإدارة دفة الحكم في بلده وكأن الاتحاد السوفياتي مازال قائما. ويقول منتقدو بوتين إن الرئيس الروسي يحضر شعبه منذ وقت للقبول به رئيسا لمدة زمنية طويلة وعدم معارضة قراراته ولاسيما سياسته تجاه حرب الشيشان التي اصبحت مع الوقت عبئا يشغل اهتمام الشعب الروسي. يريد بوتين من شعبه عدم السؤال عن الثمن لقاء الانتصار على ما يصفه بالحرب المناهضة للإرهاب.
في مطلع مايو الماضي كان هناك حادث آخر في موسكو: مرور عام جديد على وصول فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين للسلطة في الكرملين. الرئيس الثاني لروسيا وخليفة بوريس يلتسين. في العام 2000 حصل بوتين على السلطة وفي مارس / آذار 2004 تم التجديد له. منذ خمسة أعوام يمسك عميل مخابرات كي جي بي السابق بالسلطة في الكرملين وعملية حصر سريعة لما أنجزه تكشف عن هذه النتيجة: لاشيء.
كانت روسيا في عهد يلتسين قد حققت بعض التقدم في مسيرة الديمقراطية وكانت توصف بدولة نصف ديمقراطية. أما اليوم فإنها تتجه نحو الديكتاتورية. استبدل بوتين الموالين له وعينهم في مناصب كان يمسك بها موالون للرئيس السابق يلتسين. واختار نخبة من العملاء والموظفين في جهاز كي جي بي في مناصب مهمة. كانت النتيجة فرض الدولة رقابتها على الاقتصاد خصوصا. في عهد يلتسين حصل القضاء على الحرية ولم يعد يصدر قراراته بما يناسب السلطة وكانت روسيا في طريقها لتصبح دولة القانون. اليوم لم يعد أثر للماضي. القضاء والنيابة العامة تتبعان الدولة كما أن السلطة الرابعة وهي الصحافة تم عقد لسانها وإذا سمح لها بالكلام فإن هذا ينبغي أن يخدم نظام بوتين.
كل هذا يحصل في ظل حرب الشيشان التي غيرت المجتمع الروسي. منذ زمن بعيد لم تعد عبارة عن نزاع محلي وإنما وسيلة لاستعراض القوة العسكرية الروسية... من دون نتيجة. حرب الشيشان كشفت ضعف قوة الجيش الروسي الذي تلقى هزيمة على أيدي المجاهدين الأفغان في نهاية الثمانينات. السبب الرئيسي وراء استمرار هذه الحرب التي تطلق عليها روسيا الرسمية اسم الحرب المناهضة للإرهاب والتي انفجرت تحت اسم حرب الشيشان الثانية قبل خمسة أعوام. هذه الحرب باتت مرتبطة باسم بوتين ولا يمكن فصلهما عن بعض لأن بوتين مدين بحصوله على منصب الرئيس للحرب التي انفجرت في العام 1999 قبل نصف عام على انتخابه وانتشرت نيرانها في شمال القوقاز: الشيشان وداغستان وانغوشتين. لم يكن بوتين يملك تصورات أو برنامجا سياسيا حين اختاره يلتسين ليخلفه في منصبه وكانت حرب الشيشان وسيلته الوحيدة لبلوغ السلطة. في ذلك الوقت وقعت تفجيرات داخل موسكو ومدن روسية كبيرة جعلت المواطنين الروس يتحسسون سخونة الحرب. وتساءل معلقون في الغرب لاحقا عما إذا المخابرات الروسية قامت بدور في هذه التفجيرات. حرب الشيشان جعلت بوتين رئيسا وهو صاحب قرار مواصلة الحرب حتى اليوم.
كان بوسع بوتين بعد انتخابه أن يدعو إلى مفاوضات والتوقيع على اتفاق سلام، لكنه أصر على مواصلة الحرب التي مازالت دائرة حتى اليوم. استغل بوتين غضب العالم بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001 وأطلق على حرب الشيشان الحرب المناهضة للإرهاب مثلما فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون الذي راح يصرح بأن "إسرائيل" ضحية إرهاب الفلسطينيين. نتيجة سياسة بوتين في الشيشان لم يعد هناك ما يوحي بنهاية حوادثها المروعة وحيث الحرب تقوم على قيام القوات الروسية باعتقال المدنيين والزج بهم داخل السجون من دون تقديمهم للمحاكمة وارتكاب جرائم حرب. لا أحد يعرف العدد الحقيقي لضحايا هذه الحرب التي عمرها يتساوى مع عمر عهد بوتين. بينما فقد عشرات الآلاف من الجنود والضباط الروس أرواحهم، وليست هناك أرقام محددة عن عدد الضحايا في صفوف المدنيين لكن المؤكد أن عشرات الآلاف منهم في الشيشان وداغستان وانغوشتين قتلوا أو اختفوا من دون أثر. في هذه الحرب أصبح الموت روتينا بربريا.
في حرب الشيشان الأولى فقد يلتسين مع الوقت القدرة على إدارة الأمور، ما جعل العسكريين الروس يتصرفون بمحض إرادتهم ويرتكبون جرائم حرب فظيعة بهدف كسر إرادة الشيشان الطامحين لاستقلال بلدهم عن الاتحاد الروسي. لكن في عهد بوتين فإن كلما يحصل في الشيشان يتم بطلب منه. وقد جعله الدستور الروسي القائد العام للقوات المسلحة وبذلك بات اللاعب الرئيسي في حرب الشيشان. مصير هذه الحرب بيد بوتين وهو صاحب قرار وقفها أو استمرارها. إن سياسة الغش والإذلال والهيمنة التي تمارسها روسيا في الشيشان تؤدي إلى زيادة تطرف الشيشان الذين لا يستطيعون التزام الصمت حيال جرائم القوات الروسية ضد أهلهم.
رفض بوتين عروض التفاوض التي قدمها الشيشان وخصوصا بعد حادث المسرح في العام 2002 والاعتداء على مدرسة في بيسلان العام الماضي كما حذف جميع الاقتراحات بشأن حل سلمي عن مكتبه وقرر أن يواصل العمل بسياسته الخاصة في حربه الخاصة. يشجعه على ذلك صمت الغرب الذي لا يسكت فقط على جرائم الحرب بل يدعم روسيا في حربها ما يؤكده قول المستشار الألماني شرودر: بالنسبة إلينا فإن التضامن مع روسيا ورئيسها في الحرب ضد الإرهاب أمر بديهي. في الثامن من مارس الماضي أضاع بوتين فرصة تاريخية جديدة لحل النزاع مع الشيشان. فقد قامت وحدة عسكرية خاصة انطلقت من موسكو إلى منطقة تولستوي يورت الجبلية إذ قاموا بالإجهاز على أصلان مسخادوف رأس المقاومة الشيشانية والذي انتخب شرعيا في منصب رئيس الشيشان العام .1997 وبطلب شخصي من بوتين تم منح ميداليات الشجاعة للذين شاركوا في هذه العملية. طلب بوتين أيضا عدم تسليم جثة مسخادوف إلى أسرته. لماذا سعى بوتين لقتل مسخادوف؟ هناك أكثر من سبب. أولا، قتل مسخادوف ضمن حسابات بوتين. والثاني، له علاقة ببوتين شخصيا. على مدى سنوات طويلة كان مسخادوف رأس المقاومة الشيشانية وبذلك الهدف الأول للرئيس الروسي. قضى بوتين بذلك على القائد الشيشاني الوحيد الذي كان مستعدا للتفاوض وأثار اهتمام بعض الحكومات الغربية التي راحت تتساءل لماذا تضيع موسكو فرصة الحوار مع مسخادوف. في نهاية فبراير / شباط الماضي حصل في لندن لقاء بين لجنة أمهات الجنود الروس وممثل عن مسخادوف بحضور عدد من أعضاء البرلمان الأوروبي وتم في نهاية اللقاء وضع إعلان لندن الذي استبعد حل النزاع عن طريق القوة. وكان هذا الإعلان حافزا لبوتين لإصدار أمر بالقضاء على مسخادوف. ليس من طبع بوتين السكوت على أحد يسعى إلى خطف الدفة من يده. يريد بوتين تغيير الدستور بهدف امتداد فترة حكمه لما بعد العام .2008 هذا نبأ سيئ للشيشان وجميع الذين يدعون إلى إنهاء معاناة الشعب الشيشاني
العدد 1037 - الجمعة 08 يوليو 2005م الموافق 01 جمادى الآخرة 1426هـ