ثمة أخبار وتقارير مقلقة تصل من العاصمة العراقية "بغداد"، توحي بأن ثمة انحرافا ما في بوصلة الذين وضعوا أنفسهم أوصياء على مقولة المقاومة! فعلى رغم وجود قناعة عامة لدى الرأي العام العربي والمسلم وربما بين أحرار العالم أيضا بحق العراقيين في مقاومة الاحتلال وتقرير مصيرهم بأنفسهم رافضين الوصاية عليهم من أي طرف جاءت، فإن إجماعا آخر بدأ يتبلور بالوضوح والشفافية نفسها لدى ذلك الرأي العام العالمي ومفاده أن هناك فرقا بين مقاومة المحتل كحق كفلته الشرائح الدنيوية والأخروية كافة، وبين ممارسة العنف و"الإرهاب" ضد أشكال الحياة المدنية الفردية والجماعية! خبران منفصلان في ظاهرهما وقد تتباين أسباب صدور بيان بشأنهما، إلا أنهما يصبان في الاتجاه المقلق نفسه، الأول يتعلق بإعلان الزرقاوي تشكيل فرقة فدائية "انتحارية" باسم اللواء عمر نسبة إلى الفاروق عمر بن الخطاب الخليفة الثاني، والتي قال الزرقاوي إن هدفها "اجتثاث" فرقة بدر وهي الحزب السياسي أو "الميليشيا" النظامية التابعة إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، والتي كما يعرف الجميع أنها شيعية الانتماء مئة في المئة. أما الخبر الثاني فيتعلق بإعلان صادر عن القاعدة يفيد بأنها ستنفذ حكم "الردة" بحق الدبلوماسي المصري إيهاب الشريف!
لسنا هنا بصدد مناقشة التحليل أو تقدير الموقف السياسي الذي دفع جماعة القاعدة والزرقاوي إلى اصدار هذين البيانين أيا تكن أهمية مثل هذه الخلفية، لكن الخطير فيهما هو تلك الإيحاءات التي يحملها فحوى البيانين وهو ما تريده جماعة الزرقاوي بالضبط، إذ تريد القول في البيان الأول إن الجماعة الشيعية في العراق - على الأقل العاملة مع حزب المجلس الأعلى - إنما هي جماعة - ضالة بل وكافرة وفاسقة - بات دمها مهدورا وستقوم إحدى فرق "المسلمين السنية" باجتثاثها!
هذا، فيما تريد من خلال البيان الثاني القول إن كل من يخالف أو يعارض توجهات القاعدة والزرقاوي من المسلمين السنة في العراق حتى لو كانوا من كانوا فإن مصيرهم سيكون من دون أدنى ريب مصير أهل "الردة" في إشارة إحياء واضحة لحروب الردة على زمان الخليفة الأول.
إنها نذر حرب أهلية ليس في العراق فحسب، بل قد يمتد أوارها إلى جميع أرجاء الوطن العربي والإسلامي.
لست ممن يرتاحون للتقسيمات المذهبية والطائفية والعرقية والعنصرية التي باتت تصنف الناس اليوم في العراق وفي غير العراق للأسف الشديد بحسب قوالب جاهزة ولا تقبل من أحد شهادة أو تحليلا أو موقفا أو نصيحة ما لم يتمترس في أحد الخنادق السالفة الذكر. لكن الأحزاب والطبقة السياسية والنخب المثقفة في بلادنا العربية والإسلامية باتت مصنفة ومقسمة ومستقطبة وللأسف الشديد أيضا على الطريقة أو الخريطة التي يوحي بها الزرقاوي وتوحي بها القاعدة.
فمنذ غزو العراق الغادر على يد من يصر البعض على تسميته بقوات التحالف على رغم كونها قوات احتلال غير مشروعة قامت بعمل غير مبرر بحسب القانون الدولي والأعراف الإنسانية، والعاصمة العراقية "بغداد" تعرض نفسها على المسرح العالمي كعاصمة "غرائزية" بامتياز على حد قول أحد المتابعين الجيدين لأخبار العراق.
فالعراق كان منذ دخول قوات الاحتلال له في 21 من مارس/ آذار العام 2003 وحتى الآن وليمة قتل غرائزية بامتياز من قبل قوات الاحتلال للشعب العراقي.
أكثر من مئة ألف جلهم من المدنيين وغير المحاربين راحوا ضحية هذه "الوليمة" الغرائزية البشعة. مرة باسم الدفاع عن الشيعة وأخرى باسم الدفاع عن الأكراد كانوا يتقدمون باتجاه إقامة هذه "الوليمة" أو تلك!
في هذه الأثناء لم تتوان القوى السياسية المتحالفة مع قوات الاحتلال في التنظير للقتل والتحضير للولائم اليومية للقتل مرة باسم "اجتثاث" هذا الفكر السياسي أو ذاك ومرة باسم تهيئة هذا الفضاء الأمني والسياسي أو ذاك. وهكذا تم قتل وجهاء ورموز و"علماء" ورجال دين و"زعماء" وجماعات من هذه الطائفة أو تلك ومن هذا العرق أو ذاك في ولائم غرائزية بامتياز فيما تمت استضافة قادة النظام السابق الذين باسم القضاء عليهم و"اجتثاثهم" تم تدمير العراق في سجون حقوق الإنسان من الدرجة الأولى إذا ما قورنت بمعاملة قادة هذا النظام المخلوع للناس من كل الأجناس في زمن حكمهم الظالم.
لقد ظل العالم العربي والإسلامي وللأسف الشديد يتفرج بامتياز طوال السنتين الماضيتين على ولائم القتل "الغرائزية" بحق العراقيين من كل لون وطائفة ومذهب ودين، كانت خلاله القوات الغازية تشجع وتشوق وتحرض وتستفز وتحرك كل الغرائز التي يمكن أن تخطر ببال أحد ضد "الآخر" بحجة إطلاق الحريات العامة وتعميم ثقافة الديمقراطية فيما هي كانت في الواقع العملي تطلق النار وبقوة على أي مذهب اعتدالي يحاول أن يظهر وينمو لدى هذه الجهة العراقية أو تلك. فعندما يسود منطق القوة والقتل الغرائزي وبلا حدود لا يمكن منع ردود فعل مضادة له بالاتجاه لكنها من جنسه الغرائزي نفسه وان ظهر وكأنه معاد له أو مقاوم!
إنها السنة الكونية التي لا خروج عليها ولا مناص من الإقرار بقدريتها.
إنه زمن لمراجعة وإعادة النظر في كل ما جرى للعراق وكيف تم تدميره ونهبه وإحراقه أمام أعيننا جميعا ونحن نتفرج! وها هو الوجه الآخر للعملة يظهر اليوم وكأنه يريد الإجهاز على ما تبقى من أمل فيه. فهل من يتعظ من أهل العراق وجواره؟
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1037 - الجمعة 08 يوليو 2005م الموافق 01 جمادى الآخرة 1426هـ