أكد السيدمحمد حسين فضل الله، ضرورة وضع الخطط لمحاربة الفساد وملاحقة الذين أثروا على حساب جوع الناس لإعادة ما نهبوه من مال عام. وأشار سماحته إلى أن فساد الطبقة الحاكمة هو الذي يؤدي إلى فساد عامة الناس وشيوع ثقافة الفساد الذي تحول إلى فساد مفاهيمي انقلبت فيه المقاييس، فأصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا.
وأكد فضل الله أن أية حركة لمواجهة الفساد الداخلي لن يكتب لها النجاح إذا استمرت هذه الحمى العشائرية والمذهبية والطائفية، داعيا السلطة إلى إصلاح نفسها لكي تؤسس لثقافة الوحدة بعد كل هذا التمزق السياسي والطائفي.
جاء ذلك ردا على سؤال في ندوته الأسبوعية عن الاستراتيجية التي يضعها الإسلام لمحاربة الفساد والمفسدين؛ وفيما يأتي إجابته:
منذ أن انطلقت حركة النبوات في الأرض، ومنذ أن أرسل الله رسله ليقوم الناس بالقسط تحركوا في مهمتهم الرسالية الكبرى لإصلاح الأرض بعد إفسادها، فكانوا حربا على الفساد بكل أنواعه، وعملوا على نشر الفضيلة وقيم الخير في مواجهة الفساد والطغيان وصولا إلى تقديم النموذج الذي يكفل للبشرية أسس العيش الكريم ويوجهها نحو المستقبل المنفتح على كل آفاق الخير. ومن هنا انطلقت المعركة بين قيم الخير والعدل التي أرادت النبوات تركيزها وبين الفساد والإفساد، والذي أراد الطواغيت حمايته بما يضمن استمرار هيمنتهم وسلطتهم. وقد تشدد الإسلام في مواجهة هؤلاء الذين أرادوا تعميم الفساد من خلال سعيهم الدائب لتجهيل الأمة لصرفها عن التفكير في وضع الخطط لإسقاط الواقع الفاسد، فالجهل يساوي الموت، وثقافة التجهيل تهدف إلى تبرير الفساد والقبول بالأمر الواقع الذي أنتجه والذي جمد حركة الإصلاح لحساب الظلمة والأثمة.
ولقد أراد الله سبحانه للكون أن يقوم على الصلاح، وعندما اعترض الملائكة على تولية آدم "ع" كان اعتراضهم ناشئا من الخوف على أن تتحرك البشرية باتجاه الفساد: "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" "البقرة: 30"، ولكن الله سبحانه أراد للإنسانية أن تكون حربا على الفساد من خلال الأسس التي أرساها منذ انطلاقتها الأولى على الأرض، حتى جعل مسألة التدافع في اختلاف الأمم والشعوب والناس منطلقا لعمارة الأرض: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" "البقرة : 251"، فحملت حركة الصراع في كثير من تجلياتها عناوين الإصلاح في مواجهة الفساد.
قرابين الإصلاح ومواجهة الفساد
وقد جاء الإسلام وفي أولوياته مكافحة الفساد وملاحقة المفسدين، فالله لا يحب الفساد ولا يصلح عمل المفسدين، والدار الآخرة هي من نصيب أولئك الذين قدموا أنفسهم قرابين للصلاح ولمواجهة الفساد: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين". ولذلك تشدد الإسلام في معاقبة المفسدين لإعادة الحق إلى أصحابه أولا، ولمنع حركة الفساد من أن تتوسع وتمتد، ما قد يتوهمه الناس من ممالأة الدين لهؤلاء الذين أفسدوا حياة الناس السياسية والاقتصادية، وما إلى ذلك. وقد أشار الإمام علي"ع" إلى أن فساد الطبقة المسئولة عن الحكم يؤدي إلى فساد عامة الناس، عندما سئل عن فساد العامة أجاب: "إنما هو من فساد الخاصة". ومن المهمات الكبرى التي استهدفها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ملاحقة المفسدين وكشف خدعهم وفضح خططهم والتصدي لهم، ولذلك فإن على المصلحين أن يتحركوا دائما لمواجهة الفساد الأخلاقي والسياسي والمالي... بما يعيد الثقة إلى الناس بإمكان وصول خطط الصلاح والإصلاح إلى الأهداف المرسومة.
وإن واحدة من المشكلات الكبرى التي حاصرت واقعنا الإسلامي والعربي وأجهضت حركة الإصلاح فيه تمثلت في هذا التوافق الضمني على السكوت أمام الفساد الذي يبدأ من رأس الهرم في السلطة ويصل إلى القاعدة، على العكس مما كان يتحرك به الأولياء والأئمة وصلاح الأمة. فالإمام علي"ع" كان يقول عن المال المنهوب، والذي هو حق للمحتاجين والشعب: "والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق". بيد أن وجود النية لمواجهة المفسدين لا يكفي، لأن المسألة تحتاج إلى برنامج وإلى رصد مسبق لحالات الفساد المتنوع، وإلى خطة شاملة تأخذ في الاعتبار إعادة ما تم الاستيلاء عليه من مال الدولة والناس. ومن ثم تحريك الآليات في الإدارات وفي الدوائر الرسمية وغير الرسمية لملاحقة المفسدين من خلال الأجهزة الرقابية التي لا تنظر إلى هوية المفسد الدينية أو المذهبية أو السياسية ولا تتوقف عند انتماءاته السياسية، بما يفسح في المجال لتعزيز ثقافة الإصلاح وإيجاد الأرض البديلة للفساد، والتي لابد من أن تبدأ من الأسرة إلى المدرسة إلى المجتمع إلى الدولة.
إعادة المال المنهوب
المشكلة أن الأمور اختلطت علينا من خلال هذا الفساد المفاهيمي الذي انقلبت فيه المقاييس، فأصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا، وأصبح دعاة الإصلاح في عزلة أو أريد لهم أن يغردوا خارج سربهم. وأصبح الإصلاح عروس الشعر التي يتغنى بها حتى أولئك الذين زرعوا الفساد في كل مكان، وباتت المسألة تحتاج إلى عملية جراحية لإعادة توظيف إمكاناتنا في الخطط التي من شأنها إعادة إنتاج الأمة ليكون لها رصيدها بين الأمم بعدما شوه المفسدون صورتها وهددوا مستقبلها. إن علينا في لبنان وفي العالم العربي والإسلامي، إذا كنا معنيين بمواجهة الفساد، أن نباشر وضع الخطط التي تؤسس لمرحلة جديدة تقوم على أساسها دولة المؤسسات من خلال ملاحقة الذين أثروا على حساب جوع الناس لإعادة ما نهبوه من مال عام، وتفعيل الأجهزة الرقابية وعدم وضع الحواجز والعوائق أمامها، وتحريك ورشة اقتصادية سياسية من شأنها أن تركز الآليات الصالحة والقواعد المتينة التي تدفع بعجلة النمو وتواجه العجز وتحاصر الفساد.
ولكن كل حركة لمواجهة الفساد الداخلي لن يكتب لها النجاح إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه في هذه الحمى العشائرية والمذهبية والطائفية التي يسهر الكثيرون على حمايتها ورعايتها على حساب البلد وأمنه الاجتماعي والسياسي ومستقبل أجياله. ولذلك، فإن أول خطوة ينبغي أن ينطلق فيها المخلصون أو من يدعون العمل للإصلاح ألا يهرولوا إلى أصحاب الرساميل وأرباب الاستثمار في الخارج أو الداخل، بل أن يشهروا السيف على المذهبية العشائرية التي أدخلت البلد في كهوف الفساد والضياع وتريد له أن يدخل مجددا في كهوف الفوضى والخراب.
إننا نريد للسلطة أن تعمل على إصلاح نفسها وأن تؤسس لثقافة الوحدة بعد كل هذا التمزق السياسي والطائفي قبل أن تبادر إلى طلب العون من الخارج الذي يتطلع الكثيرون فيه إلى استغلال عنوان مواجهة الفساد لإيجاد أرض أكبر لوصاية أشمل، وإذا كان ثمة من يتطلع إلى مساعدة لبنان من الخارج ممن لا يزال يشعر بمسئوليته حياله، فإن في جعبتهم الكثير من الأسئلة والاستفسارات وخصوصا أننا لانزال في السلطة والأحزاب والحركات أبعد ما نكون عن الأجوبة التي لا تأتي من خلال إرادة التغيير وخطط الإصلاح
العدد 1036 - الخميس 07 يوليو 2005م الموافق 30 جمادى الأولى 1426هـ