في ندوة عقدتها مجموعة من الاكاديميين والباحثين عن "أمن الخليج"، قدمت الورقة الثالثة الى الندوة بشأن النظام الأمني في الخليج.
فرضت بريطانيا سلمها على منطقة الخليج منذ بداية القرن التاسع عشر حتى انسحابها من المنطقة في 1971 واطلق عليه "منظومة السلم البريطاني" "Britanica Pax" وخلفتها الولايات المتحدة التي بدأت وجودها العسكري في البحرين منذ 1947 متجاورا مع الوجود العسكري البريطاني ومستفيدا من التسهيلات التي كانت بريطانيا تتمتع بها.
ولكنه ومنذ الانسحاب البريطاني في 1971 فرضت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين حتى الآن ما يعرف بالسلم الأميركي "Pax Americana" وعلى رغم قوة الحضور العسكري والسياسي الأميركي في منطقة الخليج الا انه لم يمنع اندلاع الحروب والنزاعات الحدودية في المنطقة، لكنه يجب الاقرار ان الوجود الأميركي مكن الكويتيين من اجلاء الاحتلال العراقي في 1991 وتحجيم العراق وضبط ايران، والحؤول دون تطور خلافات حدودية كالخلاف البحريني القطري، السعودي الاماراتي، والسعودي القطري، الى نزاعات مسلحة.
لكن الحضور العسكري الأميركي يستهدف بالاساس الحفاظ على المصالح الاميركية وتعميقها وليس مصلحة بلدان المنطقة، مع انه يوجد تداخل بين المصلحتين كما حدث في حال الكويت.
وأود هنا أن اقدم رؤية شاملة للأمن الاقليمي الخليجي تتعدى الرؤية العسكرية والأمنية المحدودة.
أ - الاطار: يجب خلق اطار للتعاون الشامل يتعدى مجلس التعاون الخليجي ليشمل اضافة الى مجلس التعاون كلا من العراق وإيران واليمن، لقد كانت اليمن والعراق جزءا من بعض ترتيبات التعاون غير الأمنية في مجلس التعاون، وقد استبعد العراق منذ غزوه للكويت في 1990 ثم جرى استعباد اليمن لمناصرتها الموقف العراقي، لكن الوضع تغير وأضحى اليمن يشارك في بعض اطر المجلس مثل التربية والثقافة والرياضة، لكن ما هو مطلوب هو التوصل لاقامة اطار يضم مجلس التعاون وإيران والعراق واليمن لأنها فعلا تنتمي الى المنطقة الاقليمية ذاتها ولتكن "منظومة الأمن الخليجي".
ب - جوانب التعاون: يجب ان تشمل منظومة الأمن الخليجي على ترتيبات وبنية للتعاون العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي والتجاري والثقافي وغيره، على غرار نموذج الاتحاد الأوروبي أي يتحول حوض الخليج وبحر العرب الى مجال للتعاون والتبادل البشري، والسلعي والثقافي، كما هو حال خليج فنلندا مثلا ما بين الدول الاسكندنافية وتناسب حركة القطارات والبواخر والطائرات والسيارات المدنية بدلا من دوريات الزوارق والطائرات والدبابات الحربية التي ترصد المياه والحدود الاقليمية، وقد كان الخليج منذ القدم شاهدا على هذا التبادل ما بين ضفتيه.
ت - اجراءات عملية لاقامة النظام الاقليمي: يجب فورا دخول مجلس التعاون الخليجي في محادثات مع الدول الثلاث المعنية: إيران، العراق واليمن، لاقامة منظومة الأمن الخليجي حتى لو تم الاحتفاظ بمجلس التعاون الخليجي حفاظا على كبرياء مؤسسيه، ويمكن البدء بخطوات متدرجة:
1- اجراءات بناء الثقة مثل الغاء الحشود العسكرية واقامة دوريات ونقاط مراقبة مشتركة، واجراءات مشتركة لمكافحة التهريب عبر الحدود أو مياه الخليج. كما تتضمن هذه الاجراءات تجميد ثم حل الخلافات الحدودية والترابية القائمة من ضمن ذلك الجزر الثلاث، ويمكن ابتكار حلول توفيقية مثل السيادة المشتركة على الجزر، ومناطق نفطية حدودية استثمار مشتركة، بين السعودية من ناحية وقطر والامارات من ناحية أخرى.
2- مكافحة الارهاب الذي أضحى ظاهرة خطرة تهدد الجميع.
3- مكافحة تهريب المخدرات والتي اضحت وباء وكذلك تهريب الافراد والاتجار بهم، لما يجرى بين السعودية واليمن.
4- تعزيز التبادل التجاري نحو اقامة منطقة تجارة حرة.
5 - تعزيز التعاون في مختلف المجالات الاقتصادية والتعليمية والثقافية.
6- العمل لخلق اطار للتشاور السياسي وحل الازمات.
طبعا يمكن التدرج في عملية اقامة اطار منظومة الأمن الخليجي وليس اعلان قيام المنظومة بأهداف طموحة قد لا تحقق بسرعة وتتسبب في انتكاسة كما هو حال الكثير من المشروعات الاقليمية.
ث- العلاقة مع القوى الكبرى: لا شك ان للدول الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة مصالح في المنطقة، وخصوصا امدادات النفط والوصول الى الاسواق، لكن هذه المصالح تنطبق على كثير من مناطق العالم مثل فنزويلا ووسط آسيا، علما بان النفط سلعة عالمية ومن مصلحة بلدان المنطقة استمرار استخراجها وتصديرها ووصولها الى الأسواق. اذا، فإن افضل ضمانة لامدادات النفط هي في استقرار المنطقة وتعاون بلدانها، واذا تحقق ذلك فلا حاجة للأسطول الاميركي والقواعد الاميركية والوجود العسكري للدول الكبرى، الا اذا كان الهدف فرض علاقات غير متكافئة بين دول المنطقة.
ج - البعد الجماهيري للمنظومة: لقد اثبتت تجربة التكتلات الاقليمية الأخرى سواء أكانت عسكرية مثل حلف الاطلسي أو اقتصادية مثل الاتحاد الأوروبي، ان المشاركة الشعبية في إدارة أية منظومة، هو الكفيل باقامة علاقات مصالح متبادلة وراسخة بين الشعوب والذي يشكل الارضية الصلبة بين الحكومات. أننا نرى انه على رغم الخلافات بين حكومات الاتحاد الأوروبي وتبدل الحكومات والأحزاب الحاكمة، الا ان الاتحاد ثابت ويتقدم نحو الاندماح الكامل ويمكن التدرج في ذلك حتى الوصول الى مجلس منظومة الأمن الخليجي على غرار مجلس أوروبا وحتى نصل الى ذلك يجب تشجيع اقامة شبكات تصل بين الجامعات ومراكز البحوث ومؤسسات المجتمع المدني، وتشجيع المشروعات المشتركة التي تتجاوز الحدود. أن ما يجمع بين الشعبين الايراني والعربي على ضفتي الخليج من روابط الدين والجوار والمصالح والتاريخ المشترك شيء كثير يمكن ان يوظف لصالح هذا المشروع الطموح
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1036 - الخميس 07 يوليو 2005م الموافق 30 جمادى الأولى 1426هـ