هل سمعتم، أو قرأتم شيئا، عن أسطورة "سرير بروكست" اليونانية، ومقاسات نظرة هذا السيد للأمور؟ سأذكرها لكم بهدف توصيل أفكار تراودني كلما تتزاحم الأمور؛ وما أكثرها في "أوال". .. ومن ثم لي تعليق على الحوادث الأخيرة، نتمنى أن يسمعه كل من في آذانه صمم!
على كل حال؛ تروي الأسطورة اليونانية أن السيد بروكست كان خارجا على القانون وعاصيا للدولة التي لم تتمكن من إلقاء القبض عليه، وعندما نجح أحد الحكام في محاصرته، في منطقة من مناطق اليونان وضاقت عليه منافذ الهروب، واقترب موعد وقوعه في قبضة الدولة، عمد هذا الفار من وجه العدالة إلى صنع سرير على مقاسه هو، وبدأ يخطف المارة ويرغمهم على التمدد على السرير: فمن كانت قامته أقصر من السرير كان قاطع الطريق يمطه حتى تطول قامته، أي حتى يفارق الحياة، ومن كانت قامته أطول من مقاس السرير كان يقطع رأسه وأطرافه ويتركه جانب الطريق حتى يفارق الحياة أيضا.
إلى هنا تنتهي الحكاية الأسطورية، إلا أن مقاييسها لم تنته بعد، وخصوصا عندما تكون النظرة للأمور لأي كائن كان بمقياس "سرير بروكست"، فهي فعلا معضلة عويصة ونهاياتها معروفة "الموت بالمط أو بالقطع للأطراف أو بقطع الرأس"، كما يفعل الإرهابيون في العراق! وبما أن هناك جاذبية، فلابد من السقوط.
كل يطبق ما يراه بحسب نظرة ومقاسات السيد اليوناني "بروكست": الدولة تطالب الناس بالتسامح الطبقي، والناس يطالبونها بالعدالة الاجتماعية... وزارة الشئون الاجتماعية مستعدة لتطبيق وتنفيذ أحكام المرسوم بقانون رقم "21" لسنة 1989م، وقت ما تشاء والظرف المناسب لها، بحسب مقاسات السيد بروكست؛ فتغلق نادي العروبة، ثم مركز البحرين لحقوق الإنسان، وتبعث رسائل تهديد ووعيد لكل من يخالف "مقاساتها"؛ ولا تنام إلا وعصاتها تحت مخدتها التي صنعها قانون أمن الدولة حين كانت تنام معه على فراش واحد لتضرب "المتجاوزين" و"المخالفين للأنظمة والقوانين المعمول بها" في عصر تتحدث عنه ولا تطبق قوانينه.
إذا، المعادلة باتت هكذا: أنت شيوعي، لا يحق لك أن تحج! على رغم أن لينين قال: نقبل حتى القساوسة لدخول الحزب بشرط قبول برنامجنا الذي ينشد تحقيق العدالة الاجتماعية وبناء الاشتراكية في أسمى معنى للعدالة الاجتماعية.
وزارة العمل أخبرتنا بأن العاطلين عن العمل خمسة أشخاص، لذلك قامت الداخلية بضرب خمسين لا يملكون شيئا يخسرونه، زائد الخمسة المحتاجين لكسرة الخبز في بلد نفطي؛ مرتين: مرة أمام موقع الاعتصام الذي يطالب بالخبز، ومرة أخرى في مركز الاحتجاز، وصادرت الأفلام التي بحوزة الصحافيين.
قالت لهم الداخلية، بحسب المقاسات: اذهبوا إلى "زرانيق" الدراز، أو أحياء باربار، أو درابين "سفالة" بسترة، أو في "الكرية" أو "كاف لام" بجزيرة النبيه صالح!
فجأة وبحسب مقاسات بروكست أيضا، يخرج علينا وزير العمل، ليكشف لنا في منتصف 2005 "حقيقة" مفادها أن العاطلين عن العمل أميون، بينما وزارة التربية والتعليم والمسئولون الكبار، والكبار جدا يشيدون بالسياسة التعليمية والنهضوية التي قضت على الأمية سنة 2000 من دون رجعة إن شاء الله! إا إذا كان العاطلون عن العمل الذين يتحدث عنهم وزيرنا من "البحرينيين الجدد"!
ذات مرة، ومع بدايات المشروع الإصلاحي، قال أحد المسئولين، بحسب مقاسات بروكست أيضا: "إننا لم نرخص لجمعية سياسية واحدة في البلاد"! ودار جدال حام معه بشأن هذا التصريح الخطير، وما كان من المسئول إلا إبراز أحكام المرسوم بقانون رقم "21" لسنة 1989م التعسفية، مؤكدا انه سلطة تنفيذية ويطبق القوانين التي بحوزته - وهو محق في ذلك - لكنه تناسى ما هو مكتوب في الجريدة الرسمية لإشهار هذه الجمعيات السياسية، إضافة إلى توافق الحكم في العهد الجديد مع المعارضة لتأسيس جمعيات سياسية وإتاحة الفرصة لهم أن يهضموا ما يستطيعون هضمه من حرية العمل السياسي، ليس على طريقة "الانشغال والاشتغال" بالسياسة؛ بل على طريقة التأسيس للمجتمع المدني الديمقراطي والتعددية... واليوم، وبعد أربع سنوات من الانفتاح السياسي "ترجع حليمة إلى عادتها القديمة" فتحاربنا بسيف "المعز" وتعاقب مؤسسات المجتمع المدني به، وكأن الزمن لم يتجاوز هذا السيف الذي صدأ وربما انقرض الحديد الذي صنع به؟!
تعالوا من جديد لنفكر ونحدد قبل فوات الأوان، ماذا نريد؛ فهل نريد مجتمعا ديمقراطيا تعدديا، أم مجتمعا على مقاس سرير بروكست ونظرته للأمور؟! وهل نريد أن نفتح صفحة لعهد جديد بأدوات قديمة أم عهد جديد بآلات جديدة "تنتج الكم والكيف والجودة"؟! ولكم أن تختاروا...
العدد 1035 - الأربعاء 06 يوليو 2005م الموافق 29 جمادى الأولى 1426هـ