العدد 1035 - الأربعاء 06 يوليو 2005م الموافق 29 جمادى الأولى 1426هـ

المدافعون عن حقوق المفسدين

نوري السعيد وخمرة دعبول

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في أول وصول الملك فيصل إلى حكم العراق، سأل رئيس وزرائه الشهير نوري السعيد: كيف يقضي العراقيون أوقات فراغهم؟ فأجاب: لنخرج الليلة وترى بعينيك، وستعرف أحب المتع لديهم.

وفي المساء، تنكر الرجلان وخرجا في جولة نهرية، ليستقلا قارب ملاح اسمه "دعبول". هذا العراقي البسيط كان يحتفظ بقارورة خمر لضيوفه. وما ان استقر الرجلان في القارب حتى أخرج دعبول قارورته من تحت المقعد وقدمها للملك، فأدناها من شفتيه متظاهرا بالشرب منها، لكن السعيد لم يتظاهر وانما وضعها على فمه واستل جرعة كبيرة منها، ثم أعادها إلى دعبول وأخذ الباشا العجوز يتجشأ!

في نهاية الرحلة، سأله نوري السعيد: هل تعرف من أنا؟ فأجابه: لا يا أفندي، من تكون حضرتك. فرد السعيد: أنا رئيس وزراء العراق. فأسرع فيصل الأول قائلا: وهل تدري من أنا؟ فقال: لا يا أفندي، ومن تكون سيادتك؟ فأجابه بسرعة: أنا ملك العراق فيصل بن الشريف الحسين.

دعبول الذي لم يصدق أذنيه ابتدرهما قائلا: "ما شاء الله! انت شربت جرعة وشفت نفسك نوري السعيد، وحضرته شرب نصف جرعة وشاف نفسه الملك فيصل... انزلوا أبناء الـ....."!

في اليوم التالي أرسل نوري السعيد من يحضر دعبول إلى القصر، ليكمل فصول الحكاية، فلما مثل أمام الملك تبسط في مخاطبته، وسأله عن آخر أخباره، فقص عليه ما حدث البارحة، فأظهر السعيد غضبه وأمر الشرطة بالبحث عن الرجلين الشقيين، فقال له دعبول مطمئنا العجوز: "لا تتعب حالك وياهم سعادة الباشا، ملاعين ما يستحقون خمس فلوس! شربوا جرعتين وتصوروا نفسهم من العظماء"!

بعد خروج دعبول من القصر إلى قاربه، يقال ان الملك فيصل الأول استلقى على قفاه وأخذ يضحك حتى احمرت وجنتاه وعلا صوته، حتى آلمه بطنه من شدة القهقهة... وهو يتصور "الشقيين" الذين آذيا دعبول وتجرعا قارورته!

إلا أن هناك من يتجرع جرعة واحدة فيصبح بطلا على طريقة باباي، يطلق الكذبة ثم يصدق نفسه فعلا، فبين ليلة وضحاها يتحول إلى مدافع عن حقوق الانسان وعن حرية التعبير... و"ليلى لا تقر له بذاكا"!

والشعوب لا تنسى بين ليلة وضحاها الإساءات المتعمدة لها، خصوصا إذا كان تاريخه الطويل لا يمنحه صك البراءة من معاداة تطلعات الشعب. ففي كل قضية وطنية يقف هذا الطرف ضد مطالب الشعب، ولطالما نصب نفسه مدافعا عن أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب المناصب والرتب. وكلما يتعرض أحد المسئولين للمساءلة عن المال العام، ينصب نفسه مدافعا ليثبت براءته، طمعا في إخراجه من الورطة كالشعرة من العجين!

مسئول عن دائرة متورطة بفضائح أموال شرعية، تم استضافته في تلك الزاوية ليطلق كلمته الخالدة: "لم نضع فلسا واحدا في غير محله"! جدار عازل أقيم ضد القانون، يتم الدفاع عن تجاوزات صاحبه من أجل إسقاط الملف ولإجهاض محاولات تطبيق القانون على الجميع. نقابات عمالية كافحت خمسين عاما لإقرار حقوقها والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة، تعلن هذه الجهة "الحرة" معاداتها لتطلعات الفئات الكادحة في كل صغيرة وكبيرة.

ابحثوا في أية قضية صغيرة أو كبيرة، يكون فيها الشعب في مواجهة أحد من المتنفذين أو أصحاب رؤوس الأموال أو الفاسدين المكشوفين، ستجدون موقف هذا الطرف مصطفا إلى جانبهم، إمعانا في معاداة المطالب الشعبية والطموحات العامة لتحقيق دولة القانون والمساواة وإلغاء التمييز والانتقال إلى وطن يحترم أبناءه ويقدر مواطنيه. تاريخ طويل، مليء بالسباب والقذف والتهجم وإلغاء الآخر والحط من قيمة قطاعات كبيرة من الشعب، والاستخفاف بالرأي العام بمختلف مؤسساته الاجتماعية والسياسية والنقابية والمهنية. مع ذلك يتجرع جرعة واحدة من قارورة دعبول، فيتصور أحدهم نفسه نوري السعيد ويتصور الآخر نفسه الملك فيصل المعظم!

على أن أطرف من مقلب دعبول، تلك المقالة المشبعة بسجع كهان الجاهلية، يتغنى صاحبها ببطولاته في الكتابة "الطائفية"، ويصنف نفسه مناضلا من الرعيل الأول، ولا يستحي أن يضع نفسه إلى جانب كاتب عملاق مثل سمير قصير، وينسى أن البطولة لا تكتسب بالعدوى أو الادعاء أو الجلوس مع بطل على كرسي واحد، فشيبوب الأغبر ظل جبانا رغم ملازمته أخاه عنترة ثلاثين عاما!

على انك لا تبعد إلا قليلا، فتجد من يفضحه من داخل بيته، فتقرأ تشخيصا دقيقا عن خطر وجود هذه النماذج، "ليقوموا بخداع العامة بألفاظ منتقاة من قواميس الغرب، خالطينها بمواد من التراث، وتشريب الناس السموم عبر العسل المصفى... فيقوموا بتعويم المذهبية السياسية وتبريرها، وتقديم السفاحين والمجرمين أبطالا... عبر الجمل الملتهبة والألفاظ الرنانة السطحية"... وآخر من دفع ثمن هذا الخداع والألفاظ الرنانة في تحويل السفاحين إلى أبطال القائم بأعمال مملكة البحرين في العراق، فهل من معتبر؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1035 - الأربعاء 06 يوليو 2005م الموافق 29 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً