في السنوات العجاف، وفي الفترات القلقة، تكثر المناحة ويكثر البكاؤون. مقالات لا تنتهي عن الأمن والاستقرار، وخلط واضح متعمد للرمل مع الطحين. فازدياد معدل الجرائم والسرقات والتعدي على الأعراض والمخدرات، كلها أبواب للتحريض السياسي والاستعداء على مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات السياسية والحقوقية والمهنية والنقابية و... كل من يتحرك للمطالبة بحق من الحقوق.
بقعة "الحلاوة" التي سيجتمع حولها البكاؤون اليوم هي حركة الشارع المحتقن، وستتنوع العناوين: من "حمى المسيرات" إلى "الانفلات الأمني" إلى الإضرار بالمجتمع. وكلها بقع تحتمل كل هذه التلاوين والتهويلات، وفي قلبها تكمن ما اكتسبه الشعب بتضحياته من حقوق أولية يمكن أن تؤسس عليها "دولة القانون" التي يصبح فيها الجميع سواسية أمام القانون.
في هذه الفترة أيضا سيكثر المطالبون بـ "ضبط الشارع" أو كبحه في أكثر الصيغ تهذيبا، أو "قمعه" حين يصل القلم إلى قمة الابتذال. والوصفة الأخيرة جربناها في فترات سابقة فلم نجني إلا مزيدا من المعاناة والآلام، كان فيها الوطن هو الخاسر الأكبر.
على أن "ضبط الشارع" مسألة ضرورية لقوى المعارضة بمقدار ضرورتها للنظام. أولى الخطوات لابد من التفكير في المسيرات كآلية مستخدمة للتعبير عن قضايا الفئات المختلفة أو المطالبة بحقوقها المشروعة. فليس من حق أحد المطالبة بإلغاء هذه الوسيلة التي تتيح للناس التعبير سلميا عن آرائهم بدل ترك الأمور حتى تنفجر. في الوقت نفسه المفترض ألا يكثر استخدام هذه الوسيلة بصورة تفقدها قيمتها وتأثيرها. إذا فـ "ضبط الايقاع" أمر ضروري لقوى المعارضة، خصوصأ أن هناك أطرافا مازالت تنتظر الفرصة لإعادة قانون "أمن الدولة" بما يعنيه من كبت وقمع وانتهاكات وتعديات صارخة على حرمات البشر، لا يعرف فظاعاتها إلا من اصطلى بنارها، فلا تقدموا لهؤلاء المتربصين الفرصة على طبق من ذهب. من حق الناس علينا أن ننصح إخلاصا لهذا الوطن، وحبا في هذا الشعب المكافح الصبور.
وإكمالا للنصح، هناك ضرورة ضبط الإيقاع في الخطاب في أزمنة التوتر والاحتقان، فرؤساء الجمعيات السياسية ليسوا أقل شجاعة ولا أضعف منطقا ولا أقل معلومات من الخطباء "الشعبيين" في هذه المرحلة، ولكن السؤال: إلى أين؟ وهل ننتظر حتى يغرق المركب بمن فيه؟ وإلى أين المسير؟
في عصر شيوع المعلومات لم يعد هناك شيء اسمه "أسرار دول"، وفي بلد صغير مثل بلدنا، الكل يعرف الكل: كم يملك من العقار والأرصدة في المصارف والأموال المستثمرة في البورصة، وكم عدد الخدم في المنازل والقصور. ليس هناك شحة في المعلومات، ولكن كيف يتم توظيفها، وتحريكها بما يصب في الصالح العام.
ثم ان القضايا التي يعاني منها الجمهور ليست خافية على أحد، فالبلد الذي حكمته سياسة التستر على المشكلات أصبح مأزوما بمعنى الكلمة. وهكذا أخذنا نجني ثمار عهد "أمن الدولة" الآن، فسادا ماليا وإداريا، وتمييزا وسرقات لم تعد توفر حتى العلامات التجارية في السيارات والاجهزة المستخدمة في البيوت.
ملفات التجنيس والأوقاف والتأمينات والأراضي والوظائف و... غيرها كثير، كان المواطن يشم الرائحة ولكنه كان مكمما، أما الآن فالكثير منها أصبح موثقا بالأرقام. من هنا فخطباء المرحلة لن يقدموا جديدا، انما الخوف مما يلحقه التصعيد بالساحة من ضرر وتداعيات.
إذا ضربنا مثلا واحدا: ملف ضحايا التعذيب، هناك رقم فظيع أذيع في اعتصام الجمعيات الـ ،12 أمام مبنى الامم المتحدة أخيرا، يصل بعدد ضحايا "أمن الدولة" إلى 20 ألف مواطن على امتداد ثلاثة عقود، ممن خسروا وظائفهم ولوحقوا في أرزاقهم ومنعوا من مواصلة دراساتهم، فضلا عما أصابهم من أمراض وعاهات في غياهب السجون. ومهما تحفظنا على الرقم سيظل الثلث رقما معقولا، فنكون بالتالي أمام سبعة آلاف مواطن متضرر على الأقل، مازالوا ينتظرون الإنصاف من الدولة والتعويض ماديا ومعنويا بحسب توصيات جنيف.
قضية انسانية من هذا الحجم، من الخطأ إفشال فعالية للتضامن معهم وإيصال صوتهم إلى من يهمه الأمر، بسبب انفلات بضعة شبان غضبا من سيارة متلصصة من بعيد. وفيما كان هذا العام حلحلة هذه القضية، إذا بها تقذف إلى الوراء من جديد. وعلى مثل هذه القضية يمكنكم القياس، إذ يجري تحويل الاهتمام من قضايا الوطن الرئيسية والهموم الكبرى إلى قضايا فرعية، ينقلب فيها الجلاد إلى ضحية، وعدو الحرية إلى مدافع عن حقوق الانسان، وداعية الفتنة إلى كاتب شريف! وهكذا يخسر آلاف الضحايا قضاياهم المشروعة، بين نقيق الأدعياء.
"ضبط الشارع" اليوم أصبح ضرورة من أجل مصلحة هذا الشعب، ومن أجل استمرار هذا الهامش من الحرية، ولقطع الطريق على المتربصين لإعادة أغلال "أمن الدولة"، وانها لجولة في مسيرة هذا الشعب الصبور
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1034 - الثلثاء 05 يوليو 2005م الموافق 28 جمادى الأولى 1426هـ