نتحدث قولا عن الإصلاح، ونعمل ضده فعلا، نتغنى بالحرية والديمقراطية، ونهدم أسسها ونقوض رواسيها، حين يأتي وقت الممارسة، والأمر كما ترى عزيزي القارئ "سداح مداح" في الساحة كلها من حولنا شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.
لا فرق في هنا بين الحكومات المتحكمة التي جاءت بالفرض والاجبار وعقود الاذعان، وبين البرلمانات المعينة وشبه المعينة، الجميع يشارك بهمة لافتة وحماسة زائدة، سواء في التبشير بالاصلاح والتغني بالديمقراطية أو في تعويق الاصلاح وانتهاك الحريات العامة.
وبين هذا وذاك، أصبح التشريع القانوني والدستوري كالأيتام على مائدة اللئام يتنازعه المتنازعون، كل يريد تفصيله على مقاسه ووفق مزاجه، في حين تعلم ان التشريع السليم هو أساس من أهم أسس الاصلاح الديمقراطي، لأن الأصل في الدولة الديمقراطية، هو أنها دولة القانون والمؤسسات والفصل بين السلطات.
ولكن الحادث في بلادنا ان تدخلا وتداخلا بين السلطات الثلاث الرئيسية، وهي التنفيذية والتشريعية والقضائية، قد وقع بفضل فاعل لعرقلة الاصلاح الديمقراطي الحقيقي، وفي ظل الميل الشمولي والاستبدادي متعدد الأشكال والألوان طغت السلطة التنفيذية على غيرها من السلطات وتغولت وتوحشت عليها، فسلبت منها الدور والمكان والمكانة، على نحو رسخ مفهوم الدولة السلطوية وانظر حولك تجد هموما، بصرف النظر عن ضجيج الدعاية وبريق الاعلام، الذي اختلط هو الآخر بالاعلان وغرق في الدعاية ووقع أيضا في أسر السلطة التنفيذية!
في هذا المناخ المضطرب الذي ضاعت فيه الحدود والحقوق رضخت السلطة التشريعية "البرلمانات" المفروض انها ممثلة منتخبة من الشعب، للسلطة التنفيذية الى حد كبير، بدلا من ان تقوم بدورها الحقيقي والمكون أساسا من شقين، حق التشريع واصدار القوانين أولا، ومراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها وسحب الثقة منها اذا أخطأت خطأ جسيما ثانيا.
فهل تفعل برلماناتنا ذلك حقا أم أنها استسلمت إلى السلطة التنفيذية وقبلت منها مشروعات قوانين جاءت مسبقة التجهيز عاجلة التفصيل فأصدرتها بتعديلات طفيفة أو بغير تعديل أصلا، وهل مارست حق الرقابة على الحكومة قولا وفعلا وفق الحق الدستوري المعروف وخصوصا اذا تعلق الأمر بالاصلاح السياسي والتشريعي وبمحاربة الفقر والفساد، وبصوغ السياسات العامة للدولة... أم حدث العكس!
نقول ذلك وأمامنا نموذجان يجدر دراستهما جيدا:
النموذج اللبناني الذي يفترض انه الأكثر ميلا نحو الديمقراطية، فهناك حديث طويل عريض عن الديمقراطية والانتخابات الحرة والبرلمان القوي الذي يحاسب السلطة التنفيذية، لكن البرلمان اللبناني المنتخب هو الذي أقدم على اصدار قانون بالتجديد والتمديد للرئيس اميل لحود يعد انتهاء ولايته الدستورية، بعد ان تعرض لضغوط من خارج حدوده، وقد أدى التجديد لأزمة سياسية طاحنة، مازالت آثارها ممتدة حتى الآن وبعد انتخاب برلمان جديد أخيرا، يعكس تقسيمات الطوائف الدينية والمذهبية الفاعلة أكثر مما يعكس المصلحة الوطنية العامة وفي كل الأحوال لعبت القوى الخارجية في الماضي والحاضر دورها سواء في الانتخابات ونتائجها، أو في وضع الرئيس وباقي السلطة التنفيذية ما يعد انتهاكا للحريات والحقوق عموما.
أما النموذج المصري فلايزال هو الأصلح للقياس والدراسة بحكم ما تموج به الساحة المصرية من حيوية هذه الأيام وما يشوبها من انتهاك وسخونة وحراك سياسي هائل ينبئ بتطورات بالغة الأهمية.
بحكم الدستور القائم فإن رئيس الجمهورية هو رأس السلطة التنفيذية في ظل الجمهورية الرئاسية وهي غير الجمهورية البرلمانية ولذلك فهو يتمتع بسلطات واسعة انعكس بعضها على الحكومة وطبيعة عملها فتطورت وتوسع نفوذها على حساب السلطات الأخرى وخصوصا السلطة التشريعية وها نحن نعاين برلمانا "مجلس الشعب" الذي يوشك ان يغلق دفاتره ويودع مضابطه بانتهاء الدورة البرلمانية الحالية والأخيرة، بينما هو يترك وراءه كثيرا من عدم الرضا بل والغضب عليه، وصولا بقول البعض انه كان أداة طبيعة في يد السلطة التنفيذية وخصوصا فيما يتعلق باختيار القوانين والتشريعات المعيبة والمطعون في دستوريتها والتي وافق عليها بضغط حكومي صريح، على رغم ما فيها من عيوب وثقوب!
وبدلا من ان يكون البرلمان المنتخب يعبر عن رأي الشعب وأشواقه في التقدم والاصلاح، ويقود حركة التغيير الديمقراطي الحقيقي باصدار تشريعات ديمقراطية، مارس دور "المحلل" ووافق بل أصدر قوانين معيبة من الناحية الدستورية، ومكروهة من الناحية الشعبية، لأن الحكومة تقدمت بها اليه، وهي تثق في تصويت "الغالبية الميكانيكية" للحزب الوطني المهيمن على رغم كل اعتراضات الاصوات القليلة للمعارضة والمستقلين داخل قاعته واعتراضات الشارع الذي يغلي طلبا للاصلاح واطلاق الحريات بدلا من تقييدها.
لم يرد مجلس الشعب المصري ان يودع آخر أيامه ودوراته الا بثلاثة نماذج صارخة تدل على ما ندعيه وهي:
- حين بادر الرئيس مبارك بطرح تعديل على المادة 76 من الدستور لفتح الباب أمام اجراء انتخابات رئاسية مباشرة عبر الانتخابات - وليس الاستفتاءات - بين أكثر من مرشح، تبارى المجلس النيابي التشريعي مع الحكومة وحزبها الوطني في افراغ المبادرة من محتواها الحقيقي.
وتمثل ذلك، ضمن ما تمثل من حوادث، في معارضة الغالبية الطاحنة داخل المجلس مثلا لمطالب دستورية وسليمة للمعارضة والمستقلين بضرورة وضع ثلاثة شروط لمرشح الرئاسة، أولها الا يكون من مزدوجي الجنسية وثانيها ان يكون قد ادى الخدمة العسكرية وثالثها ان يقدم اقرارا بذمته المالية وعلى رغم وجاهة الشروط فإن الغالبية الميكانيكية رفضت وغضبت وتشنجت.
لكن فجأة انقلب الموقف لزاوية حادة فقد جاءت التعليمات بالهاتف تطالب الموافق على الشروط المنطقية فإذا بالرافضين الغاضبين ينقلبون الى موافقين، فماذا يعني ذلك الا ان يكون تبعية!
على عجل وبتسرع وافق المجلس بالغالبية ذاتها على قانون انتخاب رئيس الجمهورية لكن القانون حين ذهب الى المحكمة الدستورية لمراجعة مدى دستوريته ردته المحكمة باعتراض على سبع مواد فيه رأت أنها مطعون فيها بعدم الدستورية، فاذا بالمجلس التشريعي الذي يفترض انه صاحب الولاية في اصدار التشريعات السليمة والمتسقة على الدستور "يبلع" الضربة ويوافق على تعديلات المحكمة الدستورية، من دون ان يشعر احد بحرج، بل ادعى البعض ان هذا عمل ديمقراطي نموذجي، فماذا لو صدر القانون من دون عرضه على المحكمة الدستورية، وكم هو حجم الحرج والاحراج النيابي والقانوني الذي يسببه!
أما ثالثة الاثافي فجاءت وسط ضجيج الحديث عن الاصلاح الديمقراطي واطلاق الحريات، الأمر الذي يستدعي اصدار تشريعات تزيل القيود وتطلق قوى التغيير، لكن البرلمان "المفترض انه يعبر عن طموحات الشعب ويقود مسيرة الاصلاح، حصل العكس، حين أقر مادة في قانون مباشرة الحقوق السياسية هي المادة "48" ليضيف نصا جديدا مستحدثا بالحكم بالحبس في قضايا النشر والتعبير عن الرأي، ما يزيد القيود ويشدد العقوبات على حرية الصحافة والرأي.
وقد كان الاجدر بالبرلمان ان يصدر قبل ان يودعنا مشروع قانون في ادراجه، لالغاء عقوبة الحبس في قضايا الرأي والنشر، طالبه به الصحافيون والمثقفون والسياسيون وأنصار الاصلاح من كل لون واتجاه، ليثبت دوره في دفع مسيرة الاصلاح والتغيير الديمقراطي وليقول لناقديه انه لا يقل عنهم مناصرة للحريات أو على الاقل ليستجيب للوعد الذي أعلنه الرئيس مبارك قبل نحو عام ونصف العام بالغاء هذه العقوبة التي ان طالت الصحافيين أولا فهي تطول كل صاحب رأي وفكر وتعبير.
فماذا بقى لنودع به المجلس النيابي وتشريعاته التي حتما سيطعن في دستوريتها لاحقا، وماذا يحمله النواب حين يعودون الى دوائرهم الانتخابية عن وعود باصلاح احوال الناس المتردية بسبب هذا الاحتقان السياسي والازمة الاقتصادية الاجتماعية الخانقة.
وأخيرا... لقد ركزنا حديثنا ونقدنا على مجلس الشعب باعتباره السلطة التشريعية المنتخبة، صاحبة الحق الاصل في اصدار القوانين السليمة لا الفاسدة والمطعون في دستوريتها، ولم نتناول وضع مجلس الشورى لأنه لا يملك سلطة التشريع وفقا للدستور ومن ثم يصبح الغضب على الاصيل وليس على البديل.
فعلى من نلقي اللوم ولمن نوجه النقد، في افساد محاولات الاصلاح هل على الحكومة مع مجلس الشعب ككل، هل على لجانه القانونية والدستورية، هل على اعضائه الكثر من القانونيين والدكاترة والاساتذة أم على رئيس المجلس استاد القانون الضليع!
لقد عاتبني أحدهم من ذوي المكانة ذات مرة على كثرة استخدامي لعبارة "ترزية القوانين" الذين اساءوا استخدام حلمهم ودراستهم القانونية، في التسويق والتبرير والتحسين واصدار القوانين المعيبة المعادية للحرية المفسدة للاصلاح... وها أنا أرد له القول قولين، فمن يستحق العتاب بل اللوم!
خير الكلام
يقول الأخطل الصغير:
قل لمن حدد القيود رويدا
يعرف الحقد أن يفك قيوده
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1034 - الثلثاء 05 يوليو 2005م الموافق 28 جمادى الأولى 1426هـ