حين تزداد المسافة بين الفقراء والأغنياء اتساعا يصبح الوطن مباحا والمواطن مفترسا، حتى لا يعود كل واحد منا سوى قليل من بقايا لحم مغلف بجلد رقيق ملتف بعظم نحيل، وحين تتفنن الشركات الكبيرة في إذلال المواطنين العاملين لديها، وتجعلهم يعملون لديها تحت طائلة الفصل والطرد الفوري في أي لحظة بسبب أو من دون سبب، يصبح الوطن بلا طعم.
هل يمكن أن يشعر الإنسان بالانتماء إلى وطن لا يقيه حر الصيف ولا يحميه من برد الشتاء؟ هل يمكن أن ينعم الإنسان بالأمن والأمان وهو مهدد بالرمي إلى الشارع في أية لحظة يكون من دون أن يكون من حقه أن يسأل لماذا؟
كيف يشعر المرء بأنه سعيد في وطنه وهو يرى بعض المسئولين في الكثير من المواقع، يعينون ويرقون الموظفين بناء على درجة قرابتهم، أو قوة من يقف وراءهم؟ كيف يستطيع الإنسان أن يفتح منزلا وينجب فيه أطفالا يعيش معهم حياة آمنة مستقرة، وهو لا يعرف إن كان سيضمن بقاءه على رأس عمل في الشهر المقبل، وربما في اليوم الآتي؟
من هو ذلك العبقري الذي ابتكر سياسة العقود المؤقتة، وخصوصا في الشركات الكبيرة؟ وكيف قبلت الحكومة بهذا الوضع؟ هل يمكن أن نقبل بعقود مؤقتة في شركات مضى على تأسيسها أكثر من 30 سنة، وهي تحقق كل يوم أرباحا تعد بملايين الدنانير؟
هل يمكن أن نقبل بعقود مؤقتة في شركات تدير مشروعات حكومية لا تنتهي، تدر عليها ملايين الدنانير؟ هل يمكن أن يكون عقد المواطن مؤقتا يتجدد كل ثلاثة أشهر أو ستة على مدى أكثر من ثلاث سنوات والحبل على الجرار؟
أي من السادة المسئولين يعرف فلسفة مقبولة لهذه السياسة البائسة المذلة للناس؟ومن يستطيع من الساسة أن يفسر لنا هذه النظرية الاقتصادية الجديدة، ويقول لنا كيف تستطيع هذه النظرية الفذة أن تساعد على الاستقرار والتنمية في هذه البلاد؟
بالنسبة لي ولكثير من المواطنين، فإننا نعتقد بأن العقود المؤقتة هي نوع من العيش المغموس بالذل والمهانة يجبر المواطنون على قبوله، لانعدام البديل، وهنا لا بد من القول إن من يقبلون العمل بالعقود المؤقتة يفقدون ليس حقوقهم المستقبلية فقط، بل إنهم يفتقدون كل الحقوق الحالية أيضا.
ومن بين الحقوق التي لا يستطيعون التمتع بها الضمان الاجتماعي، كما لا يحق لهم المطالبة بالترقي في الوظائف التي يشغلونها، بل إنهم لا يستطيعون المطالبة بالزيادة، ولا يستطيعون المطالبة بالتأمين الصحي، كما أنهم لا يستطيعون التقدم إلى وزارة الإسكان لطلب الانتفاع من مشروعاتها بأي شكل من الأشكال، ولا يستطيعون التقدم حتى إلى أي مصرف من المصارف التجارية أو العقارية لطلب قرض وإن كان في غاية البساطة.
يقولون إن شر البلية ما يضحك، فتصوروا أن مواطنا بحرينيا ممنوعا من الحصول على قرض لمجرد أنه يعمل بعقد مؤقت! وبعيدا عن التهكم والتندر فإن كثيرا من المواطنين سيقولون، إن من غير المعقول أن يكون بحرينيا إذا لم يكن لديه قرض، وبكل تأكيد فإنه سيتفنن في الاقتراض بصور شتى.
ترى هل يتم "رفع" هذه الوظائف لأفراد بعينهم سيتخرجون في السنوات المقبلة؟ وهل يحق لأي مسئول أن يحتفظ بوظائف من هذا النوع لصالح ابنه أو قريب له سيكبر بعد "كم" سنة ليكون مناسبا للمواصفات والمقاييس المطلوبة؟.
أعرف أن هناك قدرا ليس يسيرا من الوظائف التي تدار بالوكالة وبالإنابة، علاوة على الوظائف التي تدار بعقود مؤقتة، وفي مواقع حساسة في القطاعين العام والخاص، لكن أحدا لا ينبس ببنت شفة، هل تعرفون لماذا؟ لأن من يشغلون هذه المواقع يعيشون على الأمل بأن تتغير الظروف لصالحهم، بعضهم يقول: سأثبت نفسي ولن يستطيعون الاستغناء عني، البعض الآخر يقول: ربما يكون الشخص الآخر الذي رفعت له هذه الوظيفة غير راغب بها، أو ربما يكون قد حصل على وظيفة افضل منها.
بعضهم يقول: الأرزاق بيد الله، ويصبر نفسه ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، والأذكار والأشعار، كأن يقول "ما بين غفلة عين والتفاتتها يغير الله من حال إلى حال". إنها طبيعة أبناء البحرين المسالمين المسلمين بالقضاء والقدر، لكن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"" "الرعد: 11"، فمتى نغير ما بأنفسنا حتى نتغير إلى الأفضل؟
إن من المهم بمكان أن تكون نظرتنا إلى الآخر نظرة مبنية على حقوق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، كما أن من المهم التفكير الدائم في أن الوطن للجميع، ليس هناك مواطنون من الدرجة الأولى ومواطنون من الدرجات الأخرى، جميع المواطنين من حقهم الحصول على عمل يتناسب مع مؤهلاتهم وقدراتهم.
العقود المؤقتة بالطريقة التي تدار بها هذه العقود هي خزي وعار على جبين هذه البلاد، ورب قائل يقول إن العقود المؤقتة أفضل من لا شيء، وعلى رغم أن ذلك قد يكون صحيحا فإن الأصل في الأشياء هو الحصول على الحقوق والقيام بالواجبات، فأين نحن من ذلك في بلادنا الغالية؟
بعض الشركات الكبيرة لجأت لموضوع العقود المؤقتة للتحايل على القانون، لأن هذا النوع من العقود يريحها من وجع الدماغ، وهو بالمقابل لا يعطي أصحابها حتى الحق في الانتماء إلى النقابات العمالية التي بدأت تنتشر في هذه الشركات، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف ترضى النقابات بهذا الوضع؟وكيف يقبل الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين أن تتم إهانة عدد كبير من أبناء البحرين وإذلالهم من دون أن يكون للاتحاد موقف واضح؟
نحن ننتظر من الاتحاد أن تكون له مواقف أكثر حسما، وأن يلتفت إلى هذه الفئة من المواطنين الذين يتسرب العمر من بين أيديهم وهم يتشبثون بالأمل وينتظرون الفرج، لكن الفرص التي تذهب قد لا تعود من جديد، ومن المؤكد أن الشركات التي توظف هذا النوع من العمالة بعقود مؤقتة سترمي بهم إلى الشارع مع بوادر أول أزمة اقتصادية أو إدارية تواجهها.
هل يمكن أن تنقل هذه القضية إلى أروقة مجلس النواب، وتكون المطالبة بحقوق هذه الفئة المغبونة محطة من محطات السجال مع الحكومة، حتى يتم سد الثغرات القانونية التي تستغلها الشركات الكبيرة وهي توجه الإهانة تلو الأخرى للمواطنين.
نريد من النواب أن يتدارسوا هذه القضية المهمة، وأن يضعوها على رأس أولوياتهم في دور الانعقاد المقبل، فلقد فقدت المسكنات النشطة التي تقدم للمواطنين كل يوم على هيئة بونس وزيادة عن القيام بفعلها التخديري، وأصبحت الآليات التي يتحدث عنها مجلس النواب لتحسين الحياة المعيشية للمواطن أشبه بنكات يتندر بها الناس كل يوم.
كما أننا نعول على جمعياتنا السياسية الوطنية عموما، والجمعيات الأربع خصوصا أن تولي هذا النوع من الملفات أهمية بالغة حتى يحدث التناغم المطلوب وتتحرك الملفات التي كان من المفترض أن توضع لها حلول بشكل اعتيادي من قبل الحكومة، لكننا وصلنا بعد تعنت الأخيرة في كثير من المحطات إلى انطباع بدأ يترسخ بأن كل شيء في هذه البلاد صار يحتاج إلى أن تتحرك عليه الجمعيات السياسية المعارضة حتى توليه الحكومة الاهتمام المطلوب.
ترى، هل هو نوع من الاعتراف بأرجحية آراء ومواقف المعارضة بشكل مطلق، أم أن الحكومة صارت مهتمة فقط بالملفات التي تتبناها المعارضة، أم هو نوع من سياسة جديدة تنتهجها الحكومة حتى تشغل المعارضة بمتابعة الملفات المعيشية والحياتية للمواطنين، فلا يعود بإمكانها أن تتفرغ للمطالبة بالتعديلات الدستورية، ولا يتوافر لها الوقت الكافي لتنظيم برامجها وهياكلها السياسية؟
إننا نثق بأن المعارضة أكثر وعيا من أن تقع في هذا الفخ إن كان هناك من يتوهم بأنه قد فلح في نصب شراكه، ونحن واثقون بأن الجميع بات يدرك أهمية المزاوجة بين العمل السياسي والمطالبة بالحقوق الحياتية والمعيشية للمواطن بعيدا عن الاحتقار الذي يتعرضون له كل يوم بطرق مبتكرة كالعقود المؤقتة
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1033 - الإثنين 04 يوليو 2005م الموافق 27 جمادى الأولى 1426هـ