كل بطريقته في الشرق الأوسط يتقدم نحو الديمقراطية، وقد لفت نظر كثير من المراقبين هذا السيل العارم من التشكيك أو التأييد لانتخابات الرئيس الإيراني الجديد محمود احمدي نجاد، ذلك السيل من التعليقات الذي له موقع العاطفة في ظروف الصراع القائم، وفي طرف منه اهتمام بما يحدث في إيران وفي المنطقة المحاذية لها، وتوقع لتأثيرات محتملة على الإقليم والعالم. وبدوري أقدم قراءة لما حدث في إيران من موقع أحرص أن يكون موضوعيا.
بصرف النظر عن الشكل الذي تتخذه الديمقراطية الإيرانية في التمثل على الأرض، فهناك شيء مهم لابد من الاعتراف به، وهو اعتماد "صناديق" الانتخاب بشكل دوري لتحديد معظم مستويات المسئولية في إيران، لإتاحة الفرصة للناس أن يتصرفوا بشئونهم، سواء كان ذلك على مستوى مجالس المدن أو البلديات، أو على مستوى رئيس الجمهورية، وهو أمر لابد من ملاحظته ايجابيا. ولقد كان القلق سيزداد لدى بعض المراقبين لو انتخب الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، لا لأنهم يؤيدون أطروحات غيره السياسية، أو يعارضون رؤاه السياسية، ولكن قلقهم كان منصبا على خوف من أن "تعيد النخبة الإيرانية إنتاج نفسها" وهو أمر يقود في النهاية إلى التدهور والتآكل ومحدودية تداول السلطة. لهذا السبب لا لغيره فإن تغيير الوجوه هو من صلب العمل الديمقراطي، كما هي تغيير السياسات. من صلبه، لا أحد يتجاهل في الوقت نفسه أن "الديمقراطية الإيرانية المطبقة" ليست كامرأة قيصر، فهناك محددات تقف حجر عثرة أمام ما يطلق عليها ديمقراطية شاملة بالمعنى المبتغى، فالرجال أو النساء المرشحون والمرشحات لابد لهم جميعا من المرور على "شبكة تصفية" فيما إذا كانوا أو كن صالحات للترشيح، وتلك عقبة يتوقف العاقل أمامها، وفي جزء منها نفي للمساواة، وهناك عقبات أقل من تلك في الممارسة الإيرانية، منها تأثير المال والسلطة، والتأثير السلبي للجهل أيضا، ولكن الشطر الأخير لا يرقى إلى مستوى عقبات الأول.
ليس لأحد، خارج قوى الشعب الإيراني، أن يقول قاطعا رأيا بأن هذا أفضل للشعب أو ذاك، لان الشعوب تقرر ما تريد، وعليها وحدها تعود النتائج، السلبية أو الايجابية، كما عليها وحدها أن تناضل من أجل رفع ما تراه من ظلم.
الإشارة الثانية أن الرئيس الجديد لم يتسلم حتى اليوم مهماته الدستورية، ومع ذلك شن عليه مجموعة من الاتهامات، منها وربما أخطرها، هو مشاركته في احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية في طهران، وهو أمر قد يصح وقد لا يصح، ولكنه حتى إن صح، فذلك لا يعني أن الأمر قطعي ونهائي في الإدانة، فالدور الذي لعبه الرئيس الإيراني المنتخب، إن صح الاتهام، قام به قبل أكثر من ربع قرن من الزمن، وهو زمن تغيرت فيه مفاهيم كثيرة وكثيرة، بل وانقلب بعضها انقلابا جذريا، ولا يصح اليوم النبش في هذا الملف، وخصوصا انه ملف فتح في فورة الصراع آنذاك وكان متوقعا، وإعادة فتح الملف اليوم هو ليس في صالح أحد، لأن إسناد ظهر رئيس منتخب إلى الجدار يعني تصعيدا، في ظل الظروف الحالية، لا تحمد عقباه، وعادة ما تتقمص الشعوب في هذه الحال روح الأفراد، فتتخذ مواقف متصلبة ودفاعية، تساعد على زيادة التصلب وربما تفجير الموقف بكامله، وذاك أمر لا يحقق إلا الدمار.
يبقى الشق الأكثر خطورة، خصوصا الإقليمي، فقد رافق انتخاب الرئيس الإيراني الجديد، حديث تصعيدي، وهو "تصدير الثورة"، وهو أمر ليس من العقل الحديث فيه، وربما من المستبعد التفكير فيه في الدوائر الإيرانية ذات الخبرة السياسية، لعدد من الأسباب، وهي أولا أن محاولة التصدير الأول مباشرة بعد الثورة، جاء بنتائج عكسية تماما، وجر على المنطقة المحاذية لإيران الكثير من الويلات والحروب، مازال العالم يعاني من آثارها، وثانيا أن الثورة، أية ثورة لا تصدر، خصوصا بعد أن تبين للمحيطين بها قدراتها الايجابية والسلبية رؤية العين، وبعض منها لا يشجع العقلاء السير على ذلك الطريق، فالعودة إلى هذا الشعار هي نقص حاد في استلهام مجريات التاريخ ونتائج الأعمال على الأرض، وتجاهل فروق الزمن.
حتى يتسلم الرئيس الجديد مهمات عمله، ويشكل فريقه، ويتعرف عن قرب على مشكلات الحكم وعلاقات إيران بالجوار والعالم، يحتاج إلى وقت، ومن الخطأ أن تبنى مواقف عملية إقليمية أو دولية على "شعارات" أطلقتها مرحلة انتخابية، عادة ما تكون زاعقة وحادة، أطلقت استقطابا للأصوات.
إلا أن الخطوط العريضة للتحديات التي ستواجه الرئيس الجديد، لن تخرج كثيرا عما واجهت الرئيس المغادر، محمد خاتمي، فإدارة سبعين مليون إيراني في مطلع القرن الحادي والعشرين، كساؤهم ومعاشهم وصحتهم وأمنهم، في إطار ثورة غير مسبوقة للاتصال العالمي، تتزاحم فيها الأفكار وتتضاد، ليست قضية يمكن مواجهتها بالآمال أو المثالية، فالرئيس القادم، وان قام بالمساعدة بتنظيف شوارع مدينة طهران، إلا أن شوارع المدن الإيرانية كثيرة، وبعضها من الضيق انه غير قابل للتنظيف السريع، فما بالك لو كانت هذه الشوارع ممتدة في قارات مختلفة وأماكن بعيدة.
بعض المتابعين المتشائمين يميلون إلى أن الرئيس الجديد وبما اتضح حتى الآن يميل إلى خطاب متشدد، قد يقود إيران الثورة إلى إيران انحسار الثورة، بعد مجموعة تفاعلات داخلية وخارجية، فتشدد داخلي على شعب هو في معظمه شعب شاب وحيوي له تاريخ حضاري مشهود، إضافة إلى مواجهة خارجية، على ملفات مختلفة تبدأ من ملف النووي، ولا تنتهي عند الملف العراقي، الشيعي الإقليمي، سيسارع من خطى المواجهة لغير صالح النظام القائم. كما أن بعض المراقبين الأقل تشاؤما يرون أن الرجل المقبل إلى سدة الجمهورية، سيكون لديه الكثير من الأوراق التي تجعله يقود سفينة إيران إلى ضفاف بعيد عن المواجهة، كونه يحظى، كما لم يكن سابقوه، بتأييد المرشد السيدالخامنئي، وتأييد غالبية في البرلمان، وقد طرح برنامجا نافعا للناس، فان وضع نصب عينيه تحسين معيشتهم ورفاهيتهم، سيكون لديه القليل من الوقت لتصدير ثورة أو الصدام بقوى خارجية.
وقد يكف المراقبون السياسيون عن لعب دور الأنبياء والتنبؤ بالمستقبل، عندما يفاجئهم محمود أحمدي نجاد بسياسات أخرى مختلفة عن المتوقع، إلا ان السؤال الملح: هل بعد كل المعرفة التي اكتسبها البشر تبقى هناك مفاجآت؟
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1033 - الإثنين 04 يوليو 2005م الموافق 27 جمادى الأولى 1426هـ