منظمة المؤتمر الإسلامي التي عقدت قمتها في صنعاء "على مستوى وزراء الخارجية" في نهاية يونيو/ حزيران الماضي تتحدث عن "الاعتدال الإسلامي المستنير"، وترويج "الخطاب الإسلامي المعتدل"، بالإضافة إلى "تعزيز الديمقراطية" في الدول الإسلامية، مرورا بالحديث عن التحديات التي تواجهها الأمة في فلسطين والعراق وغيرهما.
إننا نلاحظ في مثل هذه اللغة استجابة للدعوات الأميركية الاستكبارية التي تتضمن ابتزازا للمسلمين في الابتعاد عن المنطق الذي يقف ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، الذي ترفع فيه "إسرائيل" خطابها التهديدي للفلسطينيين المتمثل باحتقار السلطة الفلسطينية في اجتماع شارون عباس الذي تحدث فيه شارون بطريقة استعلائية، ثم بالامتداد في عملية الاغتيالات والاعتقالات والحصار الذي يحجز الشعب الفلسطيني في كل مواقعه ويمنعه من التحرك بحرية... الأمر الذي يفرض على المسلمين جميعا أن يواجهوا هذا الواقع بموقف متشدد رادع، تشعر فيه "إسرائيل" ومعها أميركا بأن سلوكها التهديدي الاستيطاني التدميري سيكلفها الكثير من مصالحها. ثم إن الحديث عن سلطة الشعب وعن حرياته لا ينبغي أن يبقى مجرد قرارات إنشائية، بل لابد من أن يتمثل في إلغاء قوانين الطوارئ وسيطرة المخابرات، والانفتاح على حاجات الشعب العامة بعيدا عن الخطط الأميركية في استغلال عنوان "الحرب ضد الإرهاب" لملاحقة كل الأحرار الذين يطالبون بتحرير البلاد من حال الخضوع لأميركا في إسقاط مصالح الأمة لحساب المصالح الأميركية.
إن المشكلة تكمن في أن منظمة المؤتمر الإسلامي تحررت من اعتبار القضية الفلسطينية قضية إسلامية شاملة، لتعود مجرد قضية إقليمية تخص الفلسطينيين وحدهم من دون أن يتحمل المسلمون مسئوليتهم عنها... ولعل من اللافت أن "أميركا بوش" تدرس منح "إسرائيل" مليار دولار كمساعدة مالية بعد الانسحاب من غزة بهدف "تنمية صحراء النقب ومنطقة الجليل"، بينما لم تقدم دول المنظمة أية مساعدة للفلسطينيين لتنمية مواردهم ومواقعهم التي دمرها اليهود، في الوقت الذي يملكون فيه الثروات البترولية الهائلة التي هي ثروة الأمة كلها.
أما العراق فلايزال يخضع للاحتلال الأميركي الذي يتحدث معه "بوش" عن إقامة طويلة فيه من دون تحديد جدول زمني، بزعمه أن بقاء الاحتلال يمثل حماية لأميركا، تماما كما كان حديثه في بداية الحرب بأن حرب العراق هي من أجل "إبعاد الخطر عن بلاده بفعل أسلحة الدمار الشامل"، وهي الكذبة الكبرى التي بررت الحرب على العراق، في الوقت الذي كان يعرف فيه بأن العراق لا يمتلك هذه الأسلحة، وأن نظامه لا يشكل خطرا على أميركا، بل كان خطرا على شعبه.
إن مشكلة العالم مع الرئيس الأميركي أنه يكذب في سياسته على العالم وعلى الرأي العام الأميركي الذي بدأ يكتشف أخيرا من خلال أعداد القتلى والجرحى من الجنود الأميركيين أن أميركا غرقت في وحول هذه الحرب، وفي الرمال العراقية المتحركة، في الوقت الذي لم تستطع فيه هذه الإدارة الأميركية أن تحقق للعراق أمنا، بل إن الشعب العراقي يغرق في بحر من الدماء، ويتحرك في ساحة واسعة من الفوضى الأمنية، بالإضافة إلى أن الخدمات الحياتية لم تتحقق له، وأن إعمار العراق لم يبدأ، وأن الديمقراطية لاتزال تحت تأثير الضغط الأميركي على رغم مرور سنة على تسلم العراقيين للسلطة شكليا!
إن أميركا خلقت للعراقيين أكثر من مشكلة أمنية واقتصادية وحياتية بعد سقوط النظام الطاغي، الذي كان في جذوره التاريخية صنيعة أميركية فرضت على الشعب العراقي، وهذا هو الذي يدفعنا ويفرض على العرب والمسلمين والأحرار في العالم رفع الصوت عاليا بزوال الاحتلال، ليتسلم العراقيون بمساعدة الأمم المتحدة مصيرهم بأنفسهم. ومن جانب آخر، فإننا نتابع الحديث الأميركي السلبي عن الانتخابات الإيرانية، التي انطلق فيها الشعب الإيراني ليؤكد إرادته في اختيار رئاسته بكل حرية وقوة، بعيدا عن أية ضغوط خارجية... ولكن أميركا التي تتحدث دائما عن الديمقراطية ليست مستعدة لقبول الاستفتاء الشعبي الحر إذا لم يكن في مصلحة سياستها الاستكبارية، ولاسيما إذا كان الشعب يرفض خضوعه لها، كما في إيران.
وفي لبنان تتحرك الاعتداءات الإسرائيلية في الجو والبر بين وقت وآخر، وهذا ما يؤكد أن "إسرائيل" لاتزال خطرا على لبنان في ألاعيبها المتحركة في التسلل عبر الحدود من جهة، وفي الاختراقات الجوية من جهة أخرى... وأثبتت المقاومة الإسلامية بأنها في مستوى التصدي والممانعة للعدو، وأنها هي القوة الرادعة لعدوانه، في الخطة المدروسة التي تكتفي برد العدوان من دون ابتعاد عن دراسة الأوضاع الداخلية والخارجية على المستوى السياسي، وهذا هو الذي ينبغي أن يعرفه النادي السياسي المعقد من المقاومة إذا كان مخلصا للحرية والسيادة والاستقلال. ومن ناحية أخرى، فإن على المجلس النيابي الجديد الذي تتنوع تكتلاته في خطوطها السياسية التفصيلية، أن يخلص لعناوين الإصلاح والتغيير التي استهلكها الكثيرون في شعاراتهم الانتخابية، ليدخل البلد عصر المؤسسة ويخرج من كهوف الأشخاص، سواء على المستوى الرسمي أو السياسي، لتكون المؤسسة هي عنوانه لا الشخص مهما كبر حجمه، ولتتحدد علاقات لبنان الخارجية على المستوى الإقليمي أو الدولي فلا يستبدل وصاية بوصاية، وليكون القرار لبنانيا لا أميركيا ولا أوروبيا من خلال الضغوط التي قد تظهر مظهر النصائح والوصايا الودية.
إن التحدي كبير لكل الذين يملكون القرار في لبنان، من أجل إنتاج لبنان الذي يعرف كيف يحاسب المفسدين والهادرين والمنحرفين، والذين باعوا بلادهم للشيطان القريب والبعيد
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1031 - السبت 02 يوليو 2005م الموافق 25 جمادى الأولى 1426هـ