حتى الآن يبدو الارتباك هو المسيطر على السياسة الأميركية في المنطقة التي تسميها "الشرق الأوسط الكبير". إلا أن هذا الارتباك لم يتطور حتى الآن في صيغة جديدة تعطي ملامح لاستراتيجية بديلة تريد واشنطن اعتمادها في السنوات المقبلة. فالنقاش لايزال في أطواره الأولى لذلك تتسم معالمه بالغموض. فكل مسئول يصرح بفكرة لا تتفق مع أفكار المسئول الآخر. وكل مرجع يعطي قراءة لا تنسجم مع تصورات زميله في الإدارة نفسها.
واشنطن تمر أيضا - وكما تشير ملامح التصريحات - في فترة "فوضى" سياسية قد تكون مقصودة وربما تكون صحيحة. وفي الحالين يظهر من سياق تداعيات المواقف أن هناك مشكلة. والمشكلة الأهم أن الخلافات تظهر عن عدم وجود اتفاق بين المسئولين والمراجع على توصيف عناصرها وتحديد مصادرها.
مثلا يصرح هذا المسئول "دونالد رامسفيلد" بأن الازمة العراقية عميقة ويحتمل أن تمتد قرابة ثماني أو عشر سنوات. ويأتي مسئول آخر ليناقض كلام وزير الدفاع مشيرا إلى احتمال السيطرة على الموقف خلال فترة لا تتجاوز السنوات الخمس. ونجد في المقابل أن رئيس الوزراء إبراهيم الجعفري أكثر تفاؤلا مشيرا إلى احتمال أن تنجح القوات العراقية في السيطرة على العنف والعمليات المسلحة في فترة لا تتجاوز السنتين.
تضارب المواقف في الإدارة الأميركية، وبينها وبين المعنيين مباشرة بالازمة العراقية يضاف إلى تلك "التضاربات" في التصريحات التي يطلقها هذا المسئول في واشنطن أو ذاك في بغداد... كلها تؤكد وجود أزمة. فكل فريق له خطته وتصوراته وبرنامجه وجدوله الزمني. والكل يخبط خبط عشواء ويتخبط في تقديم توضيح أو على الأقل يفسر ماذا يحصل في بلاد الرافدين.
هذه "الفوضى" في التفكير ربما تكون "بناءة" وربما تدفع المنطقة نحو خراب في حال انفلتت الرقابة من ضوابطها واتجهت نحو تدافعات غير مسيطر عليها. فما يحصل في العراق يفوق التصور ويعجز المراقبون عن تفسير عناصره وأسبابه ومسبباته. وهذه أيضا مشكلة تضاف إلى ما سبقها. فكل طرف يتهم الآخر بالوقوف وراء الفوضى. وكل فريق يتنصل من المسئولية ويتهم خصمه بالضلوع أو تشجيع تلك العمليات، ولكن الصحيح - وهذا ما تنص عليه المواثيق الدولية - أن الاحتلال يتحمل مسئولية ما جرى ويجري لأنه هو الجانب الذي اتخذ قرار الحرب وبادر إلى افتعال أزمة والتذرع بها لتبرير عدوانه .
هذه المسئولية السياسية/ القانونية تتهرب واشنطن منها محاولة تجهيل الفاعل والتغطية على الفعل المباشر "الأول" الذي انتج ردود فعل وأسهم في إطلاق دورة العنف.
واشنطن تتجنب المسئولية وتتهم كل الأطراف بها وتحمل "دول الجوار" كل التداعيات التي نجمت عن الاحتلال... في وقت لا تتردد جهات أميركية كثيرة في كشف الحقائق التي فضحت أكاذيب الإدارة وتلفيقاتها بشأن "أسلحة الدمار الشامل".
الحقيقة باتت مكشوفة إلى حد كبير حتى لدى الرأي العام الأوروبي والناخب "دافع الضرائب" الأميركي... ومع ذلك تتصرف إدارة جورج بوش وكأنها غير معنية بتلك الملاحظات والانتقادات التي أخذ يرددها كبار المساعدين في دائرة الحزب الجمهوري الحاكم.
على ماذا يدل هذا الميل الأميركي إلى تجاهل المسئولية وتحميل الجهات الأخرى سلبيات ما انتجه العدوان والاحتلال؟
هناك أكثر من تفسير يمكن استخلاصه من هذه "الفوضى" في التصريحات. أما أن تكون للتضليل "ادعاءات البساطة والمفاجأة والضعف" تمهيدا لتوجيه ضربات تطال الدول التي تتهمها واشنطن بأنها مسئولة عن إثارة القلق والعنف والاضطراب وعدم الاستقرار. وأما أن تكون "فوضى" حقيقية بدأت أمواجها تضرب جدران البيت الأبيض وأصبح رئيس إدارة البيت في وضع حرج لا يعرف ماذا يفعل ولا يدري ماذا يحصل وكيف يتصرف لانقاذ ما يمكن انقاذه من "أحلام يقظة".
الاحتمالان واردان... إلا أن المرجح هو ارتفاع درجة الارتباك، ولكن هذا الارتفاع لم يصل بعد إلى مستوى "النقد البناء" تمهيدا لإعادة النظر في الاستراتيجية الأميركية. فحتى الآن لاتزال الاحتمالات مفتوحة وهذا هو الخطر الكامن وراء تلك "الفوضى البناءة"
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1031 - السبت 02 يوليو 2005م الموافق 25 جمادى الأولى 1426هـ