العدد 1029 - الخميس 30 يونيو 2005م الموافق 23 جمادى الأولى 1426هـ

مؤسس حركة الإحياء الديني

الإمام الغزالي. .. جامع العلوم "6"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

دخل الإمام الغزالي في صراع مع الوقت. فهو يواصل كتابة مشروعه "الاحيائي" في وقت اشتدت الأزمات في بلاد الشام. فالمنطقة ازدحمت بالجيوش وانفتح الصراع العسكري على مصرعيه ممتدا من المشرق إلى المغرب. في المغرب مثلا نجح المرابطون في استرداد بلنسية من الفرنجة في العام 495هـ "1102م" بقيادة يوسف بن تاشفين. وفي المشرق ايضا نجح المسلمون "السلاجقة" في انزال هزيمة عسكرية بالفرنجة في موقعة حران في العام 497هـ "1104م".

المواجهات العسكرية استمرت واشتد الضغط على الديار الإسلامية غربا "في الاندلس" وشرقا "في بلاد الشام" وشهدت المناطق عمليات كر وفر بين العالمين الإسلامي والأوروبي في وقت استمر الغزالي في كتابة مشروعه النهضوي وبدأت شهرته تضرب الآفاق. فالإمام اجتمعت لديه مختلف فنون المعرفة وانتقلت كتاباته إلى مختلف الأرجاء وترجمت مقالاته في الفلسفة والرد عليها إلى اللاتينية. وسيكون لكتبه وقعها الكبير وتأثيرها اللاحق في انتاج الفلسفة الأوروبية المعاصرة وسيتأثر بها توما الاكويني وسيعتمد عليها كمراجع وحجة للرد على تيار ابن رشد الذي انتشر وعرف شهرة في عصره.

هذا الإمام كان في وقته مهتما بتطوير مشروعه وأدوات المعرفة الإسلامية فاستمر متقلبا في مختلف فنون كتاباته يساوره الشك ويعمل ليل نهار على ابتكار وسائل تسعفه للسيطرة على قلقه الدائم. فكان يبحث في كل مسألة ويفككها من الداخل ويعيد تركيبها من جديد وفق أسلوب معلمه امام الحرمين "الجويني". فحجة الإسلام الشافعي المذهب درس الكلام على طريقة الأشعري وأعاد تطويرها واحيانا تأسيسها من البداية إلى حد اعتبره البعض واضع اسس الكلام عند أهل المذاهب السنية.

هذا النوع من العمل المضني والدؤوب قلل كثيرا من اهتمام الغزالي بشئون عصره والمشاغل السياسية والعسكرية التي احاطت به. الا ان أعماله المتميزة أتاحت له فرصة الانتشار من المشرق إلى المغرب وبات محط اعجاب نظرا إلى كثرة تلامذته في المحيط الإسلامي الممتد إلى الاندلس.

في هذه الفترة... فترة العمل الشاق والشائك اكتنف الغموض حياة الغزالي وأفعاله وتحركاته اليومية. فالمعلومات متضاربة بشأنه بين قائل انه بقي في دمشق لا يغادرها وبين قائل انه كان يجوب المنطقة ثم يعود إلى مكان عزلته في الجامع الأموي. المعلومات غامضة وهناك صعوبة في تحديد أمكنة اقامته أو حصر وجوده ورصد تنقلاته. البعض مثلا يقول انه غادر دمشق وجاب المنطقة ذهابا وايابا تردد خلالها على القدس والخليل والحجاز. والبعض يقول انه واصل اقامته في دمشق وكان يغادرها ثم يعود اليها. المسألة غير محسومة ولكن المعلوم والمؤكد ان الغزالي استمر في كتابة مشروعه وتطوير مقالاته التي عرفت شهرة في ايامه.

لم تقتصر شهرة الغزالي على منطقة المشرق بل امتد صيته إلى المغرب وانتشر تياره هناك وسط مساحة واسعة من المثقفين والعلماء ورجال الدولة. وبسبب مكانته العلمية المميزة ارسل أمير دولة المرابطين في المغرب والاندلس بطلبه. فأفكاره كما يقال أسهمت في تأسيس تلك الدولة وشجعت الفقهاء على معاودة الاتصال بالمشرق وتجديد العلاقة المقطوعة مع الخلافة العباسية.

طلب يوسف بن تاشفين اللقاء بالإمام الغزالي ولا يعرف سبب ذاك الاتصال. فهناك من يقول ان أمير دولة المرابطين كان يعاني من تلك الخلافات الفقهية بين رجال امارته ونصح بضرورة الاستعانة بالغزالي لمساعدته في احتواء المشكلات. وهناك من يفسر الطلب انه محاولة لأخذ شرعية دينية لإمارته واعطاء الأمير تلك المكانة المفقودة وسط صراعات سياسية "قبلية" كانت بلاد المغرب والاندلس تعاني منها. وهناك من قرأ المسألة من جانب سياسي ورأى ان وجود امام من وزن الغزالي في الاندلس يشد من عزيمة الدولة ويعزز شوكة المسلمين في مواجهة غزوات الفرنجة وضغوطهم المستمرة على المدن الإسلامية في المناطق الشمالية المجاورة لحدود فرنسا.

المهم ان هذا التوقيت... توقيت الاتصال المختلف بشأن تفسيره حصل. ومن هنا تبدأ الروايات تتفق على تحركات الغزالي. فالامام وتلبية لدعوة أمير دولة المرابطين غادر دمشق بعد قرابة عشر سنوات من العزلة والترحال والكتابة متوجها إلى ميناء الاسكندرية تمهيدا لابحاره إلى الاندلس. وفي الاسكندرية وصل الخبر المحزن: توفي أمير المرابطين يوسف بن تاشفين.

رحيل ابن تاشفين قطع الاتصال بين الغزالي ودولة المرابطين وألغى تلك الرحلة التي اعتزم القيام بها إلى الاندلس. وأدى فشل الزيارة إلى اعادة الإمام جدولة حياته وترتيب أهدافه من جديد.

لا تعرف الفترة التي قضاها حجة الإسلام في الاسكندرية، كذلك لا يعرف زمن وصوله اليها أو مغادرتها. وتتفق الترجيحات على العام 499هـ "1006م" كمحطة لرصد رحلاته.

حتى هذا الموعد ليس دقيقا اذ هناك تقديرات تقول انه توجه إلى بغداد في العام 498هـ محاولا استعادة موقعه السابق. الا ان هذا الكلام غير مؤكد نظرا إلى تداخل التواريخ ببعضها ولا يعقل ان يكون الامام في مكانين في وقت واحد. الشيء المؤكد ان الغزالي غادر الاسكندرية ولم يعد إلى دمشق ويرجح انه تجنب العودة إلى بغداد وذهب رأسا إلى نيسابور في خراسان وعاد لمزاولة مهنة التدريس في "النظامية". فشبكات مدارس نظام الملك لم تتوقف بعد اغتيال مؤسسها بل استمرت على افضل حالها تخرج جيوش المتعلمين في عهد ابنه فخر الملك. ويرجح ان يكون الغزالي وصل نيسابور في العام 499هـ حين ترك الاسكندرية قافلا إلى محيط مسقط رأسه.

في نيسابور استعاد الغزالي نشاطه الأول وبدأ يزاول مهنة تركها طوعا بحثا عن أدوات معرفة تسعفه في كشف الحقيقة. ولم يكن قراره سيئا. فالغزالي الآن بلغ 50 عاما من عمره وترك مؤلفات قدرت بنحو 300 كتاب عالجت مختلف فروع العلوم الدينية وحقول المعارف. فكتاباته اشتملت أو جمعت مختلف العلوم من فلسفة وكلام ومنطق وتفسير وحديث وفقه وأصول وأدب وشعر وتصوف واجتماع واخلاق ونفس وسيرة ذاتية وضعها في نيسابور "المنقذ من الضلال" ودون فيها بوضوح مختلف محطاته الفكرية. فالغزالي حقق غايته من الحياة وهي الوصول الى السعادة المطلقة "لذة المعرفة كما يسميها". وهذه السعادة زرعت في داخله الاطمئنان والتوازن بعد قلق شديد عانى منه نتيجة اختلاط الشك باليقين وبسبب محيط مضطرب يلفه الجنون السياسي وتحصد رجاله المؤامرات وفرق الاغتيالات.

اطمئنان الغزالي لم يستمر طويلا. فهو ما كاد يستقر في نيسابور يدرس في "النظامية" حتى حملت الاخبار نبأ اغتيال فخر الملك. وترافق الخبر المشئوم مع وصول انباء مقلقة من بغداد تشير إلى عودة الاضطرابات والفتن في عاصمة الخلافة العباسية. وكانت تلك الأخبار كافية للضغط على الغزالي واثارة مخاوفه مجددا فقرر الرحيل ومغادرة نيسابور إلى مسقط رأسه: طوس.

الحنين إلى مكان الولادة كانت خاتمة رحلات الغزالي. إلا أن الرحلة الأخيرة لم توقف قدراته على الابداع والعطاء حتى اللحظات الباقية من حياة هذا الإمام/ الفيلسوف.

قضى الغزالي سنواته الأخيرة في طوس يكتب ويؤلف بينما كانت الأمة في مشرقها ومغربها تعاني الفتن والاضطرابات وغزوات الفرنجة من الاندلس إلى الشام. فالفتن عصفت ببغداد واضطر الخليفة العباسي المستظهر طلب النجدة من السلاجقة لدعمه في احتواء الاضطرابات التي اشتدت في العام 501هـ "1107م". وفي الاندلس كان حال المسلمين افضل اذ نجح أمير المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين في انزال هزيمة بالفرنجة في موقعة كبرى في العام 502 هـ "1108م". وفي ساحل الشام كان وضع المسلمين يتدهور حين نجح الفرنجة في الاستيلاء على طرابلس وتأسيس مملكة هناك في العام نفسه.

قضى الإمام الغزالي سنواته الأخيرة في طوس يكتب مؤلفاته الثمينة والنادرة في وقت كانت الديار الإسلامية تشهد معارك كر وفر بين جيوش المسلمين والحملات المتواصلة للفرنجة من الاندلس إلى الشام. المرابطون مثلا نجحوا بقيادة أميرهم علي بن يوسف في تحقيق سلسلة انتصارات وإنزال هزائم متتالية في الفرنجة في الكثير من المواقع في الاندلس بين العامين 503 و504هـ "1110م". بينما كانت الخلافة العباسية تمر في حال ضعف في مواجهة ضربات الفرنجة بسبب الارباك الذي احدثته الفتن والاضطرابات والاغتيالات والمؤامرات ضد الخليفة المستظهر في بغداد.

وبعيدا عن تلك الفضاءات المشحونة بالكراهية والضغائن وازدحام الشام بالجيوش كان الغزالي عاد إلى نقطة البداية يعيش ايامه الأخيرة في طوس يؤلف آخر اعماله "القسطاس المستقيم". وبهذا الكتاب اختتم حياته القصيرة "55 سنة" في نهاية العام 505هـ "1111م" ليشهد العالم الاسلامي بعد رحيله نهضة جديدة لعبت فيها افكاره دور الرافعة الفكرية/ الفلسفية/ الفقهية لطور من التقدم على مختلف المستويات السياسية والعسكرية.

رحل جامع العلوم عن ديار المسلمين تاركا مئات الكتب التي تكاملت نصوصها على رغم تقلبه. فالتنوع في مناهجه وتنقله من حال إلى حال اسهم في تطوير مزيج فكري خلاق أبدع خلاله في تركيب صورة عقلية عن الإيمان أسهمت في اشباع أجيال أنقذتها من الوقوع في الشك واطلقتها من احباطات الواقع... والبدء في تأسيس حركة اصلاح دينية كان لها اثرها التاريخي في تشكيل قوة انقاذ لدولة اسلامية كادت ان تسقط من حسابات الزمن

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1029 - الخميس 30 يونيو 2005م الموافق 23 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً