كثيرة هي المحطات التي حفل بها خطاب الرئيس التركي عبدالله غول أمام المجلس الوطني في القضيبية أمس.
كنت محظوظا فعلا بأن استمعت عن قرب لخطاب الرجل الأول في تركيا قلب الشرق الأوسط النابض بالحياة، ولمست حب الرئيس التركي لإقامة علاقة حميمية مع البحرين على مختلف المستويات.
بدا للوهلة الأولى أن خطاب الرئيس التركي كان كبيرا وشاملا وجامعا، ولم يترك كبيرة ولا صغيرة من قضايا المنطقة وتحديات المجتمع الدولي إلا ذكرها، ولكن هذا الخطاب الطويل كان في طبيعة الحال شرح مفصل لـ» تركيا الجديدة» وموقعها في العالم المتحضر.
الرئيس غول حرص على الإشادة غير مرة بالفرصة التي أتيحت له ليخاطب أعضاء المجلس الوطني في سابقة لم تُتَح لغيره من الرؤساء.
كثيرة هي النقاط التي أثارت اهتماما بالغا لدى مستمعي هذا الخطاب التاريخي، فالرئيس التركي دشّذن فصلا جديدا من العلاقات التركية - البحرينية على المستويات كافة.
سياسيا، بدا عبدالله غول وكأنه ملمٌ بتفاصيل التطورات السياسية التي شهدتها البحرين منذ تولي جلالة الملك مقاليد الحكم في العام 2001، وقدم الرئيس غول توصية مهمة لأعضاء البرلمان البحريني حين قال: «إن اختلاف الأفكار والآراء المتعددة تثري التجربة الديمقراطية وهي مصدر قوة للسلطة التشريعية التي تمثل بيت الأمة وتعبر عن طموحاتها».
نحن بحاجةٍ ماسة للاستفادة من التجربة التركية على صعيد التنوع السياسي، وعلى صعيد إتاحة الفرصة للألوان المختلفة بأن تطفو على السطح، فالأتراك نجحوا إلى حد يحسدون - أو يغبطون- عليه في خلق ديمقراطية تعددية ملونة، فهناك حكومة فاعلة وبرلمان حي ومعارضة رشيدة لكنها قوية ومؤثرة أيضا.
ونستنفيد من تركيا درسا مهما للغاية، وهي أنه لا يمكن في كل الأحوال إقصاء أي طرف فاعل في الساحة لمجرد أنه يحمل ميولا وأفكارا أيدلوجية مختلفة، فمن منا يصدق أن حزب العدالة والتنمية ذا التوجهات الإسلامية الواضحة (والمعتدلة في آن واحد) سيصل إلى سدة الحكم في أكبر علمانية في الشرق الأوسط، ليس هذا فحسب، وإنما ينجح هذا الحزب الذي لم يدخل في غمار المواقع الرسمية أن يدير دفة تركيا بكل حكمة واقتدار، وأن يعيد جعل تركيا تنافس على موقع الريادة في المعادلات الإقليمية والدولية.
تجربة مهمة أخرى يمكننا أن نستلهمها من أصدقائنا الأتراك وهي النجاح الاقتصادي، وهو أمرٌ حرص الرئيس التركي بالأمس أن يقف عنده طويلا، فتركيا الآن تحل في المرتبة السابعة عشر في أنشطة الاقتصاديات على مستوى العالم، وهي بلد تعتمد على الموارد غير النفطية (وعلى رأسها السياحة) بشكل باعث على الاعتزاز، فالأمة التركية لها تاريخها الضارب في أعماق الزمن، وأمة ذات حضارة عظيمة احتضنت التراث الإنساني من أوسع أبوابه.
عبدالله غول تحدّث عن رغبة بلاده في مضاعفة ميزان التبادل التجاري بين تركيا والمملكة، معبرا عن أمله أن يصل هذا الميزان إلى مليار دولار مع نهاية العام 2010، وهذا الرقم الطموح يعكس متانة الصلات الاقتصادية بين بلدينا.
على صعيد العلاقات الدولية، قدم الرئيس غول شرحا مفصلا عن السياسة الخارجية للجمهورية التركية، فتركيا أصبحت الجسر بين الشرق والغرب، وحلقة وصل ليس لأنابيب الغاز فحسب وإنما حلقة وصل لأنابيب السياسة أيضا، فتركيا تحتفظ بعلاقة وثيقة مع كل اللاعبين في المنطقة، المحيط العربي من جانب وإيران من جانب آخر، وقد وظفت علاقتها مع الدولة العبرية في تنشيط خط ساخن في ملف الصراع في الشرق الأوسط.
من منا سينسى الموقف التاريخي والمشرف والذي لم يحظَ به عالمنا العربي من الخليج إلى المحيط، وهذا الموقف هو معارضة أنقرة الشديدة والواضحة للجرائم الصهيونية المتواصلة على العرب عموما والفلسطينيين خصوصا، ولن ينسى أحد منا في منطقتنا العربية الواسعة الموقف البطولي الذي أظهره رئيس الوزراء التركي رجب طيب أوردغان حينما صبّ جام غضبه على السياسات الصهيونية، وانتصر لدماء الأطفال الذين قتلتهم «إسرائيل» على الشواطئ بدم بارد في محضر زعيم هذا الكيان في جلسة المنتدى العالمي في «دافوس».
الرئيس التركي شدّد في القضيبية على ضرورة وجود مقاربة مهمة لمواجهة التحديات الدولية، وكان لافتا حرص فخامة الرئيس على اطلاعنا على دلالات زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لتركيا والتي وضعها في قائمة الدول القليلة التي زارها خلال هذه الفترة القصيرة من تسلمه مهام رئاسة الولايات المتحدة.
نحن نشاطر الرئيس التركي ما قاله بشأن وجود متغير مهم في السياسة الأميركية تجاه منطقتنا، وخير دليل على ذلك حديث الرئيس أوباما الواضح والذي لا لبس فيه بأن «الولايات المتحدة ليست في حرب مع الإسلام ولا المسلمين»، وأن ثقافة الحوار بين الدول هو السبيل الأمثل لحل القضايا موضع الاختلاف، وهو الأمر الذي برز على نحوٍ جلي في خطاب الرئيس التركي بالأمس.
قاعة المجلس الوطني في القضيبية لا شك أنها شهدت صبيحة أمس خطابا تاريخيا من رئيس من العيار الثقيل بكل ما للكلمة من معنى، ولا غرو بأن الطموحات التي أصغينا إليها من الرئيس غول نأمل بأن تبصر طريقها للتنفيذ بعد القمة التي جمعت فخامته مع جلالة الملك، وكذلك المباحثات الرسمية بين كبار المسئولين في بلدينا.
ختاما، شكرا لكم فخامة الرئيس لأنك أوليت بلادنا أهمية كبرى، وشكرا لكم لأن أتحتم لممثلي الشعب والإعلاميين فرصة ثمينة بالإصغاء لتجربة بلادكم، وكم نحن سعداء بأن نشاطركم الرأي في جل توجهاتكم، تغمرنا السعادة بأن تدفع زيارتكم الموفقة علاقاتنا المشتركة قدما نحو الأمام وأن نضع سويا لبنة في بناء عالم تسوده الحكمة ويعلو فيه صوت الحوار.
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2414 - الأربعاء 15 أبريل 2009م الموافق 19 ربيع الثاني 1430هـ