نعم... سياسة «قولوا ما شئتم وسنعمل ما نريد»، لم تعد صالحة للاستخدام، بعد أن استنفدت عمرها الافتراضي وأصبحت عبئا على الوضع السياسي.
لقد تذوّقناها، وجرّبناها، وعجمناها... فأوصلتنا إلى هذه الدرجة من تآكل الثقة بين الأطراف، حتى أصبح الكلّ ينادي بضرورة العودة للحوار الوطني الجاد.
حتى نحن في الصحافة متهمون بالمشاركة في ممارسة التخدير، الذي يداور حول المشكلات وربما يقترب منها ولكنه لا يجرؤ بالمناداة بحلّها، وبذلك نُتهم بالتواطؤ والمداجاة.
الصحافة في العالم الحر لها دورٌ رقابي، وسلطةٌ اعتباريةٌ محترمة، لكن في بلداننا لا يُراد لها أن تلعب هذا الدور. وفي بعض البلدان التي تشهد حراكا سياسيا نشطا، ومجتمعا حيويا، يُرخى الحبل للصحافة أحيانا من أجل هدف واحد تقريبا، هو التنفيس... وهكذا تتحوّل إلى غطاءٍ للتنفيس عن البخار. والسؤال: ماذا بعد رفع الغطاء؟
نحن جميعا نفتخر بأن لدينا هامشا من حرية التعبير، وعددا كبيرا من الصحف تفوق ربما طاقة هذا البلد الصغير على الاستيعاب، ولكننا لا نتوقف أما السؤال: ماذا بعد؟
عندما دشن المشروع الإصلاحي، كان لدينا صحيفتان، وبعد ثمان سنوات أصبح لدينا ثماني صحف. هذه الصحف تتنافس فيما بينها لجذب القارئ، ولذلك أثارت قضايا وتناولت موضوعات، وفتحت تحقيقات وأبوابا ما كان لها أن تُفتح من قبل. هذه الإثارة استقطبت قاعدة أكبر من القراء، وبالتالي زاد اهتمام ومتابعة الجمهور للقضايا العامة. لا يعني ذلك أن القضايا كان جديدة أو مجهولة للناس، فنحن بلد صغير، لا تزيد المسافة بين أغلب المناطق عن كيلومترين.
إذا... التنافس الطبيعي بين الصحف -وبغض النظر عن أية عوامل أخرى- كان سيولّد مزيدا من الاهتمام بالشأن العام، ولذلك أصبحت القضايا المسكوت عنها فيما مضى، متداولة كلّ يومٍ في الصحافة، من قضية الأرض والثروة العامة وتوزيع الثروة والموازنة وتدهور البيئة ودفن السواحل والفشوت وتدمير مصادر الثروة السمكية... إلخ، فضلا عن موجة الغلاء وتدهور المستوى المعيشي وتأثيرات الأزمة المالية العالمية التي ما زلنا نصر على أننا بمنجاةٍ منها.
ثم حين تتكشّف قضايا كبيرة مثل ألبا وطيران الخليج وبنك الإسكان... ويقرأ الناس في الصحف أخبارا يومية عن الحكم على صغار القضايا من قبيل سجن عدة أشهر على سارق بطاقة هاتف، بينما لا تحسم القضايا الكبرى، فإن ذلك يكرّس الإحباط من إمكانية إصلاح الوضع، أو تعزيز الحقوق العامة، أو الحفاظ على المال العام.
ثم عندما تكون هناك تحالفاتٌ وصفقاتٌ مع تيارات دينية سياسية معينة لتمكينها من مفاصل الدولة، مقابل الصوت الانتخابي وضمان الموقف السياسي، فإن كلّ ذلك يوفّر بيئة خصبة للإحباط وتنامي مشاعر الغضب والحنق لدى من يُراد تهميشهم، أو تأتي الصفقات على حسابهم وعلى حساب مستقبلهم.
ثم حين تقوم الصحف بتحقيقات صحافية بمنتهى المهنية والحيادية، فتكتشف آثار التجنيس السياسي وواقع البيوت الآيلة للسقوط، وشبكة طرق قديمة، وشبكة كهرباء جرى ترقيعها في السنوات السابقة حتى لم تعد قابلة للترقيع، ويكتشف الجمهور الأسباب الكامنة وراء انقطاع التيار وزحام الشوارع وبؤس القرى والأطراف.
والصحافة... أين هي من كلّ ذلك؟ ألسنا نورّطها حين نعاملها كغطاء لتنفيس البخار، أو نقول لها: «قولي ما تريدين ونحن سنفعل ما نريد»؟.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2414 - الأربعاء 15 أبريل 2009م الموافق 19 ربيع الثاني 1430هـ