من «شعرة معاوية» ننتقل إلى «أمير ميكافيللي»، والذي هو الآخر يتطلب فهم مدلولاته الحقيقية، العودة إلى السياق التاريخي الذي ألف فيه الكتاب. عاش ميكافيللي في فلورنسا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر (1469 - 1527)، من عائلة توسكانية، في عهد الأمير نقولا المشهور بإسم «لورنزو العظيم»، المنحدر من أسرة «مديشي» التي حكمت إيطاليا في عصر «النهضة». وأكثر ما عُرف به لورنزو هذا كان نجاحه في حفظ التوازن، وتقليص عوامل النزاع والاقتتال بين وحدات إيطاليا الخمس المتناحرة، والتي كانت: فلورنسا، ميلان، البندقية، مملكة نابولي، الدولة البابوية في روما. وللعلم، فإن الكتاب «الأمير» لم يطبع، إلا بعد وفاة ميكافيللي بخمس سنوات.
لا يعنينا مقولات ميكافيللي، التي أخذت طابع النصائح، التي تناولت سلوك الملوك والحكام إزاء الممالك التي يفتحونها، ويحكمونها عنوة على الرغم من إرادة سكانها، لكنّنا سنركز على لبّ النصائح التي وردت في كتاب «الأمير» لإدارة نظم الحكم في الدولة ذاتها، وفي نطاق حدودها، والتي تشكل إطارا عاما لنظم الحكم التي نشهدها اليوم في الكثير من الدول، وخصوصا التي لا تسودها ديمقراطيات عريقة. ذلك لكون ملخص كتاب الأمير عبارة عن مجموعة من النصائح التي تشكل في مجملها ما يشبه السياسة التي ينبغي أن يقوم بها الحاكم كي يضمن استمراره في السلطة، والإمساك بها، بغض النظر عن مدى أهليته لها، أو موافقة شعبه على ذلك. ولتحقيق ذلك يبرر ميكافيللي لذلك الحاكم القيام بما يراه مناسبا (الوسيلة) من كل الأساليب، بما فيها تلك التي تتجاوز المعايير الأخلاقية، مبررا ذلك باستمرار الحاكم في الإمساك بالسلطة، والتي ينبغي أن تكون هي نهاية الأمر «الغاية» التي تبرر سلوك ذلك «الأمير». بموجب ذلك يتحول الحكم في نظر ميكافيللي هدفا بحد ذاته، تتلاشى أمام تحقيقه كل المعايير الأخلاقية، وتتراجع، من أجل الوصول له، كل ما قد يتنافى والقيم الأخلاقية التي ينبغي أن تراعى في إدارة دفة الحكم في ذلك المجتمع.
لذلك لا يتردد ميكافيللي، في ذلك الكتاب أن يكيل المدح للحكام الذين يتباهون بكونهم يضربون عرض الحائط بكل القيم الأخلاقية التي تربط بينهم وبين شعوب المجتمع الذي يحكمونه، طالما ضمن لهم ذلك البقاء في السلطة، والتي ينبغي أن تكون، كما يراها ميكافيللي في كتابه «الغاية» المطلوب الوصول لها. لذلك كان لدى «أمير» ميكافيللي معياران أخلاقيان للمجتمع، الأول ذلك الذي يدعو الناس للتقيد به، ويعتبره ضرورة من ضروريات استقرار ذلك المجتمع الذي يخاطبه، لكنه في الوقت ذاته يعفي «الأمير» من التقيد بتلك الأخلاق عندما تكون عقبة أمام بقائه في السلطة.
هذا يفسر فصل ميكافيللي في «أميره» بشكل واضح وجلي بين «الأخلاق والدين» من جهة وبين السياسة، وكأنها نظام قائم بذاته، بعيدا عن ذينك الإثنين من جهة ثانية. فطالما كانت غاية الأمير الأولى، هي الحفاظ على قوته السياسية، فليس هناك أي مبرر للرجوع إلى المقاييس الأخرى، سياسية كانت أم دينية، طالما توافرت في تلك القوة السياسية مقومات «الاحتفاظ بالسلطة بين يدي ذلك الأمير». يزيح ميكافيللي من على كاهل «أميره» أي تقيد أخلاقي يمنعه من «القتل» أو «الكذب»، دون أن ينسى أن يوعز للأمير أنه وهو في خضم قيامه بذلك عليه أن يكون ذكيا ومناورا لدرجة يستطيع أن يغلف تلك المناورات كي لا يكتشفها شعبه، أو أمراء الدول التي يفتحها ويحكمها. على أمير ميكافيللي أن يحيط تلك السلوكيات اللاأخلاقية بأسيجة من السرية والكتمان، كي لا يكشف أمرها الآخرون.
هذا السلوك «الأميري» المطلوب يفسر وضع ميكافيللي معيارين للأخلاق: الأول للمواطن العادي، والآخر للأمير. وبالنسبة لهذا الأخير فالمعيار الوحيد هو قدرة ذلك الأمير على الحفاظ على السلطة، ولا شيء دون ذلك.
هذان المعياران، هما اللذان جعلا من ميكافيللي حالة مثيرة للجدل في صفوف الفلاسفة من أمثال هيغل وروسو، بل وجعلاه عنصرا مهما في أدبيات شاعر كبير مثل شكسبير في مسرحيتيه «نساء وندسور المرحات» و»يهودي مالطة».
على أن الأفكار الميكافيللية، لم تعد اليوم محصورة في قصور «الأمير» بل تسربت، وللأسف الشديد، إلى صفوف بعض المعارضات بما فيها تلك العربية، التي بتنا نسمعها لا تكف عن ترداد «الغاية تبرر الوسيلة»، والغاية لديها تحولت إلى الاستمرار في المعارضة، وفي أحيان كثيرة الاستحواذ على نصيب الأسد من مكاسبها، وتهميش الآخرين ممن ينتمون إلى صفوف المعارضة أيضا.
لقد انتشر معيارا «أمير» ميكافيللي، في الأخلاق في صفوف المعارضة العربية، وباتا يحكمان العلاقة فيما بين فصائلها، وكأنما تحولت الغاية في نظرها تبرر كل الوسائل التي تقدم عليها، ليس في صراعها ضد الممسكين بالسلطة، وإنما في الأطر التي تنظم العلاقات فيما بينها. بل وصل الأمر إلى ما هو أسوأ من ذلك إذ انتشر سلوك تبرير الغاية للوسيلة، إلى صفوف التنظيم الواحد في صفوف المعارضة، وتمظهر ذلك في سياسات «الإقصاء» و»التهميش» لكل أشكال المعارضة في نطاق التنظيم الواحد، خشية من هم في قمة ذلك التنظيم من فقدان «سلطتهم» و»نفوذهم» اللذين يتمتعان بهما من هم في أعلى قمة الهرم التنظيمي.
ذلك يلقي الضوء على بعض أسباب، وليس كلها، التي قادت إلى التفتت الذي شاب حركات المعارضة العربية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والتي أدت إلى تشظي التنظيمات السياسية العربية، أحزابا كانت أم جبهات متخالفة، بينما احتفظت السلطات بتماسكها وقبضاتها الحديدية.
لكن مقلب كل ذلك وجدنا، كل التطورات التي عرفها الفكر السياسي التنويرية، وخصوصا الأميركي منها، قد عارضت أفكار ميكافيللي، واعتبرتها مناهضة للتأسيس لمجتمع مدني يجري في تقاسم السلطات بشكل واضح، ومتفق عليه بين «الشعب» ممثلا في معارضته، والأمير من خلال مؤسسات دولته، وفيما بينهما: أي المعارضة، والسلطة، تقوم غابةٌ من أشجار مؤسسات المجتمع المدني والتشريعي، التي حوّلت العلاقة بين الاثنين إلى علاقة تكامل بدلا من علاقة تناحر.
الأمر ذاته ينطبق على العلاقات بين فصائل المعارضة المختلفة، أو في نطاق الفصيل الواحد منها. فالمطلوب دفن هذه المقولة «الغاية تبرر الوسيلة» والأخذ بمعيار أخلاقي واحد في العمل السياسي.
وإلى أن نصل إلى مثل هذا المجتمع، الذي نأمل ألا يطلق عليه أحد صفة المثالية، سنبقى نعمل بمفهوم «شعرة معاوية» وفي إطار قيم «أمير ميكافيللي»، وهو ما لا يرضاه أمير عادل أو معارضة بناءة.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2414 - الأربعاء 15 أبريل 2009م الموافق 19 ربيع الثاني 1430هـ