حواس محمود - كاتب سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
وهناك أخطاء كثيرة يقع فيها منظم المدن منها: منظم المدن الذي يضع المصانع على طريق الرياح السائدة، أو يضع المسكن على شارع كثيف الحركة الآلية أو يبعده عن سوق تأمين الحاجيات اليومية، أو يضع المنطقة الصناعية بجانب منطقة سكنية، أو يضع مدرسة في الطرف الآخر من شارع مزدحم بالسيارات، أو يتغافل عن تأمين ملاعب ورياض الأطفال، أو يقلل من الحدائق إلى درجة أدنى... إلخ.
وبالرغم من أن التخطيط العمراني اختصاص علمي، إلا أن مهندس التخطيط العمراني يلجأ ويزداد لجوؤه كلما ازداد تمكنه من اختصاصه إلى حد كبير من الاختصاصات الأخرى، بهدف تحقيق الشروط المثلى لمعيشة الإنسان وعمله واستجمامه، من هذه الاختصاصات: الجغرافيا، علم الاجتماع، البيئة، العمارة، الهندسة الإنشائية، علم المياه، الطبوغرافيا، الصحة العامة، المناخ، الصرف الصحي، ميكانيك التربة، الزراعة، الفنون التشكيلية، ولكن مهندس التخطيط العمراني يبقى قائد الأوركسترا ( المايسترو) لتحقيق التناغم المطلوب من جميع الاختصاصات الأخرى، ويمكن القول بأن «التخطيط العمراني ليس تقسيماً لشوارع يصطف على جانبها صفان من الأبنية، ومن المؤكد أن المدينة هي المكان الذي يعيش فيه الإنسان، وهذا يتطلب من مهندس التخطيط العمراني أن يوسع مداركه ومعارفه قدر ما هي واسعة حياة الإنسان وعمله، وأن يؤمن لهذا الإنسان المأوى والراحة فيه وخارجه، وأن يقيه من المنغصات التي تؤدي إلى أمراض عصبية وجسدية، وتؤثر على إنتاجية عمله وعلى علاقاته بالآخرين».
إذن بالاستناد إلى ما سبق نجد أن التخطيط العمراني مسألة دقيقة وحساسة، وعليه أن يأخذ بالاعتبار عملية التوفيق بين الجانب الوظيفي والجانب الجمالي والجانب الاقتصادي، فعلى مدى نجاح التوفيق بين العناصر السابقة المتناقضة يمكن تقويم المخطط العمراني إيجاباً أو سلباً، وبالاستناد إلى تعريف المدينة «المكان الذي يعيش فيه الإنسان ويعمل»، نرى أن مهمة منظم المدينة تعتمد بشكل رئيسي في تأمين مسكن للسكان وتلبية احتياجاتهم، وبالنسبة لتأمين المسكن ومستلزماته يتوجب على منظم المدينة أن يؤمن للسكان جميع الخدمات الضرورية في إطار مرحلة التطور التي يعيشها هؤلاء السكان مع الأخذ بالاعتبار التطور المستقل، ويمكن تحديد هذه الخدمات بـ:
الأملاك العامة: وتشمل الشوارع بأنواعها، الحدائق، الساحات.
المشيدات العامة: وتشمل المدارس، المراكز الطبية، المراكز الثقافية، أماكن العبادة، المراكز الإدارية، مخافر الشرطة.
الأسواق التجارية.
يلعب منظم المدن دوراً رئيسياً في التأثير على سلامة الحالة الصحية والنفسية للسكان سلباً أو إيجاباً، ويمكننا في هذا السياق أن نورد أموراً كثيرة تؤثر على هذه الحالة بصورة عامة.
وضع الأبنية السكنية: يتطلب من منظم المدينة أن يوفر لسكانها القدر الكافي من الضياء والهواء والخصوصية والمنظر الجميل، وذلك بالتوافق والانسجام مع الظروف المناخية والاجتماعية والموقع، وتقع أخطاء كثيرة في هذا المجال، كمثال: قرب الأبنية بعضها من بعض لدرجة تفقد المسكن خصوصيته، وتجعله تحت أنظار سكان المبنى المجاور، مما يضطر العديد من السكان إلى إغلاق نوافذهم إغلاقاً دائماً، وبذلك هم يحرمون أنفسهم من الشمس والهواء.
تأمين مساحات محددة أو أنصاف أقطار تخديم لا يجوز تجاوزها بالنسبة لكل نوع من أنواع الخدمات، والغاية من ذلك هي تأمين حصول السكان على هذه الخدمات دون عناء كبير، وتحصل أخطاء في هذا المجال كمثال: بعد المدرسة وبخاصة «الابتدائية» - حيث الأطفال الصغار - عن كثير من الأبنية السكنية بعداً يخلق قلقاً لدى الأم والأب، ويستمر هذا القلق إلى حين عودة الطفل من المدرسة.
توازن استعمالات الأراضي يتوجب أثناء دراسة المخطط التنظيمي العام لمدينة من المدن أو المخطط التفصيلي لقطاع معين من المدينة، أن ينصب الاهتمام الأول على التوازن في استعمالات الأراضي، وتأمين تناسب سليم للمسافات بين مختلف الاستعمالات لتلبية احتياجات السكان الأساسية، وتقسم هذه الاستعمالات إلى أبنية وفراغات.
الأبنية: وتشمل السكنية والعامة، الإدارة، الثقافية، الدينية، الصحية، التعليمية، التجارية والخدمية، أما الفراغات فتشمل حدائق خاصة، حدائق عامة، ساحات عامة، شوارع، مواقف سيارات، ممرات ، وأرصفة للمشاة، والغاية من التوازن بين مختلف استعمالات الأراضي هي ألا يطغى استعمال على آخر، ويمكننا أن نضرب مثلاً على سوء التوازن بين استعمالات الأراضي ما يتعلق بالشارع والرصيف، إذ إن الدراسات أثبتت أن 70 في المئة من حوادث السير في الاتحاد السوفياتي السابق يعود سببها إلى سوء تخطيط الطرق، والشوارع، وأشار باحث فرنسي إلى أن هذه النسبة هي 80 في المئة.
تنظيم المدينة والاستجمام: يقسم علماء تنظيم مدن الاستجمام إلى ثلاثة أنواع: يومي، أسبوعي، موسمي، وتقع على عاتق منظم المدينة مسئولية اختيار مواقع الاستجمام الملائمة في المدينة، ويمكن تأمين الاستجمام اليومي بتخصيص مساحات كافية للحدائق العامة وللمساحات الخضراء، وتوصلت الدراسات إلى نتيجة مفادها أن درجة حرارة المناطق الخضراء تنقص عما هي عليه في مناطق المدينة الأخرى ويصل الفارق إلى (15) درجة مئوية، كما أن المناطق الخضراء تقوم بتخفيف الضجيج في المدن نتيجة لتلاشي أو تخامد الموجات الصوتية المتساقطة على أوراقها المخملية المهتزة باستمرار.
جمال المدينة: تشكل المدينة ككل وبأجزائها المختلفة مجموعات غنية معمارية وعمرانية معقدة ذات أحجام كبيرة، ويجب أن تتوفر فيها التكوينات المتناسقة تخطيطياً وفراغياً ومعمارياً، أي أنه يجب أن تتوفر فيها العناصر الجمالية، وفي حال عدم توفرها فإنها لا تعدو أن تكون مجموعات أو تماثيل نحتية بشعة.
إن الواقع التنظيمي والعمراني للمدن العربية وما يتخلله من أخطاء وما يترافق مع أزمات ومشاكل يدعونا إلى القول بضرورة تضافر الجهود في الدول العربية، وإلى العمل العربي المشترك، والتعاون لتبادل الخبرات ومناقشة الدراسات والبحوث في هذا المجال، ويمكن أن ينظم هذا التعاون ضمن لجان مشتركة منبثقة عن الجامعة العربية أو مجلس التعاون الخليجي، أي على المستوى القومي العربي، أو على المستوى الجهوي، ويمكننا أن نذكر - في هذا السياق - بعض التوصيات (في مجال التخطيط العمراني) التي تم إقرارها في ندوة «دبي» بدولة الإمارات العربية أثناء عقد المؤتمر العاشر لمنظمة المدن العربية من 3 إلى 7 أبريل/ نيسان 1994 والتي كانت بعنوان «المدينة العربية وتحديات المستقبل».
ضرورة إعداد استراتيجيات بعيدة المدى للتنمية الحضرية مع الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال.
نظراً لتعاظم أهمية المدن المتوسطة والصغيرة في تحقيق التنظيم الحضري والتوزيع الأمثل للسكان وكذلك في مجالات التنمية، يجب أن تولي الدول والمدن العربية اهتماماً كبيراً لتدعيم دور المدن في خطط التنمية الشاملة.
الاهتمام بدور البلديات في إعداد استراتيجيات التنمية الحضرية ودورها أيضاً في إعداد الخطط وتحديثها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
النهوض بالمجتمعات الريفية والبدوية في البلاد العربية والتنمية الشاملة لهذه المجتمعات أسوة بالمجتمعات المتحضرة.
مراعاة الاختيار الجيد والدقيق للموقع الجغرافي والموقع الطبيعي للمدن الجديدة، في ظل الظروف المكانية والأحوال البيئية من أجل الحفاظ على توازن البنية الاقتصادية.
من الضروري أن تقوم المدينة الجديدة على عنصر التخطيط الكامل، الذي يضمن بناء مستوطنة مستوفية لجميع الشروط التي يجب توفرها لقيام المدينة واستمرارها.
ضرورة حفظ وإحياء المواقع التاريخية، وكذلك الارتقاء بالأحياء القديمة والمتخلفة، مع تأكيد التوازن في التنمية والتخطيط الحضري، وتكوين لجان متخصصة من ذوي الخبرة والاهتمام بالتراث والتخطيط العمراني لتقييم التراث العمراني فنياً في المدن، وتقرير ما يجب هدمه وما يجب الحفاظ عليه، وتطبيق الأساليب العلمية في ترميم المباني التاريخية.
وفي الختام يمكن القول بأن العديد من الأزمات التي حدثت وتحدث في المدن، وأن حالة الاغتراب المدني التي تصيب العديد من سكان المدن، سببه سوء التخطيط العمراني، ذلك أن التخطيط العمراني يتغلب عليه في كثير من الأحيان أهداف تجارية صرفة، من قبل تجار ومقاولي العقارات الذين يهمهم فقط الربح السريع ولا يهمهم صحة وسلامة المواطن، ولذلك فالتخطيط العمراني يتوجب عليه وضع المخططات العمرانية استناداً إلى دراسة ميدانية موسعة بالأخذ بعين الاعتبار جميع حيثيات وظروف التواجد السكاني وعلاقته بمستويات المدينة الاقتصادية والثقافية والعلمية والسياحية، وبما يؤدي في المحصلة إلى الحد أو إزالة الأضرار الناجمة عن سوء التموضعات العمرانية، وكما رأينا لا يمكن أن يكون التخطيط العمراني ترفاً حضارياً، وإنما هو حاجة موضوعية لبناء وسكن ومدينة منتظمة متناسبة الأبعاد والتموضعات السكنية والخدمية والاستجمامية، بحيث تشكل في مجموعها لوحة جمالية حضارية متناسبة الألوان والمسافات غنية بالوظائف، زاخرة بالحيوية.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2938 - الثلثاء 21 سبتمبر 2010م الموافق 12 شوال 1431هـ