أنا المسلمة الوحيدة التي وافق صامويل هنتنغتون على مقابلتها أثناء حياته. أدت تفاعلاتي معه لأن أومن أن ما يعتقده العديد من الناس عنه وعن أفكاره، وخصوصا الكثير من الناس في العالم الإسلامي، يسئ على الأرجح تمثيل ما يعتقد به فعليا.
سوف يعرف الراحل صامويل هنتنغتون على الأرجح بفرضيته الخلافية «صدام الحضارات»، التي وضع من خلالها فكرة أن الحضارات، مقارنة بالشعوب فقط، تشكل عنصرا مهما في مستقبل السياسة العالمية. ورغم أن فرضيته خاطبت العديد من الحضارات المختلفة، إلا أنها ربما تكون اشتهرت على أوسع مجال من خلال تأكيداتها بأن «الحضارة الإسلامية، تشكل قوة متماسكة معارضة للعالم الغربي.
حضرت واحدا من آخر صفوف هنتنغتون بجامعة هارفرد عام 2005، وقعت أثناءه جدالات حامية حول انخراط الولايات المتحدة في حرب العراق. ناقش هنتنغتون ضد جهود إدارة الرئيس بوش في بناء الأمم بالشرق الأوسط، وهو موقف مثير للسخرية، حيث أن العديد من أنصار الحرب يستشهدون بنظريته على أنها تبرير «لإعادة هيكلة» العالم الإسلامي. وبينما راقبْتُ الطلبة يشكّكون بكيفية استخدام نظريته لتبرير سياسات يعارضها هو اليوم، تساءلت ما إذا بقي هنتنغتون ملتزما بالجدل الأساسي لنظريته بعد هذا العدد من السنوات من نشرها.
بعد إصرار كبير على إجراء المقابلة، وافق هنتنغتون على مقابلتي في منزله.
أستذكر شخصيته الدافئة الودودة، رغم سلوكه الذي يميل إلى الشك قليلا، كأنما هو يسبر غوري ليفهم ما إذا كانت المقابلة ستسيء تمثيل ما سيقوله بأي شكل من الأشكال. فهمت فيما بعد سبب احتمال قلقه: ذكر عدد المرات التي استُخدِم فيها اسمه لتبرير أهداف لم يكن ليوافق عليها.
كان هناك سبب وراء خلافية هنتنغتون. كتب في «صدام الحضارات»: «يجب فهم السياسة العالمية الحالية على أنها نتيجة لنزاعات معمّقة بين ثقافات عظيمة وأديان العالم». قام هنتنغتون بإنشاء جدار حديدي جديد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي... «على بعد عدة مئات من الأميال شرقا... يفصل الشعوب المسيحية الغربية عن العالم الإسلامي».
أوجد هذا المنظور بالنسبة لكثيرين مضمونا لذلك النزاع. سقطت القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية جميعها إلى الهامش. الدين الإسلامي هو الذي دفع المسلمين إلى الغضب ليثوروا ويقاتلوا». إلا أن هنتنغتون قام خلال المقابلة بالإعراب عن شعور أقوى بالمصالحة. عندما طُلب منه إيضاح الجملة أجاب هنتنغتون:
«التفسير الضمني، الذي يستنبطه البعض حسب قولك خاطئ بشكل كامل. أنا لا أقول أن الغرب متّحد. وأنا لا أقترح ذلك. من الواضح أن هناك خلافات داخل الغرب وخلافات داخل الإسلام. هناك طوائف وجاليات ومجتمعات ودول مختلفة. ليس أي منها متناغما على الإطلاق. ولكن هناك أمور تشترك فيها. يتحدّث الناس في كل مكان عن الإسلام والغرب. ومن المفترض أن لذلك علاقة بالواقع، بأن هذه كينونات لها بعض المعنى، وهذا واقع. وبالطبع فإن جوهر هذا الواقع هو خلافات في الدين».
واستمر بالنقاش: «تتعاون الدول الغربية مع الدول الإسلامية والعكس صحيح. أعتقد أن ذلك خطأ. دعيني أعيد ما قلته، لأفكر من منطلق ناحيتين متناغمتين تواجهان بعضهما بعضا بشكل متصلّب».
من المستحيل معرفة مدى الأثر الذي خلّفته نظرية هنتنغتون على أحداث مثل الذهاب إلى الحرب في العراق أو تنفيذ ما يسمى «بالحرب على الإرهاب» بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. إلا أنه كان من الواضح جدا أنه لم يكن لدى هنتنغتون الكثير من الصبر على إساءة استخدام أفكاره في مجالات السياسة. لم يبتعد أبدا عن انتقاد إدارة الرئيس بوش في حلقات المحاضرة التي عقدها في النهاية في هارفرد.
أعتقد أن هنتنغتون شعر أنه أسيء فهمه وجرت إعابته وذمّه من قبل المسلمين وبقية العالم حسبما شعر به الكثير من المسلمين نتيجة لنظريته. كان الأمر كأنما هو أراد فرصة لإيضاح أفكاره بصوته للمجتمع الذي أسس علاقة بينه وبين الجانب المظلم للسياسة الأميركية لهذا العدد الكبير من السنوات. أراد فرصة ليعرّف نفسه بدلا من أن يعرّفهُ الآخرون، وهو شيء يمكن للمسلمين وغيرهم من المجتمعات أن يفهموه.
ورغم أنه لم يبتعد عن جذوره كواقعي، قام هنتنغتون بإدخال فارق دقيق وأهلية لنظريته أثناء حوارنا. وقد برّر الحاجة للنزاع وأوضح احتمالات التعاون. ويمكن أن يكون حتى متعاطف مع الأسلوب الذي استخدمت فيه نظريته لإضفاء الشيطانية على الإسلام في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي.
شرح هنتنغتون أثناء المقابلة كيف أدرك سوء استخدام نظريته في دوائر السياسة المختلفة لدفع أجنداتها الخاصة للتمييز بين الغرب و«العالم الإسلامي». وناقش قائلا إن الدول الغربية تتعاون مع الدول الإسلامية والعكس صحيح». ومن الأمثلة التي قدمها الشراكة بين الولايات المتحدة وباكستان في قضايا تتعلق بالأمن العالمي.
أعتقد أن النقطة الرئيسة في المقابلة كانت السؤال الأخير الذي طرحته على هنتنغتون: «ما هو الشيء الوحيد المتعلق بك الذي يستغرب معظم الناس أن يعرفوه عنك؟».
كان جوابه: «حسنا، أعتقد أنكم معشر... كلا. هذا غير عادل بالنسبة لك. ولكن الكثير من الناس ينزعون لأن يظنوا أنني عقائدي متشنّج. ولكنني لست كذلك». وفي واحدة من تحولات القدر المثيرة للاهتمام، تبين أن هنتنغتون والعالم الإسلامي يشتركان في شيء: الشعور المحبِط أن ما يعتقده العديد من الناس عنهم مبسّط في أفضل الحالات، وغير صحيح في أسوأها.
* طالبة دكتوراه تدرس العلاقات بين المسلمين والغرب بجامعة بوسطن، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند» الإخباريّة.
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2414 - الأربعاء 15 أبريل 2009م الموافق 19 ربيع الثاني 1430هـ