حواس محمود -+ كاتب سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
الصناعة وآثارها: شهدت المدن العربية بدايات التصنيع بشكل ملحوظ. ومع أهمية التصنيع وحتميته لنا فإنه يجلب عللاً لابد من مجابهتها، ومن أهمها التلوث بأنواعه - الهواء - الماء - التربة، فإلى جانب تلوث البيئة بالضوضاء والحرارة، هناك تلوث للجو في دول النفط ينتج عن عمليات استخراج النفط وتكريره، وحين تكون مستودعات النفط تحت الماء يحدث بالإضافة إلى ذلك تلوث المياه، أما مخلفات عمليات التصنيع فكثيراً ما تجد طريقها إلى الأراضي المجاورة، عاملة بذلك على تدمير التربة، ولاتزال غالبية الأقطار العربية من دون قوانين ملزمة تحكم التصرف في مخلفات الصناعة.
السكن العشوائي: أضحت الكثير من المدن العربية مطوقة بأحزمة من السكن العشوائي «أحزمة البؤس» كما يقولون لها وتفوق في بعض الحالات ما يزيد عن نصف سكان المدينة، ويوفر السكن العشوائي البيئة المهيأة للعديد من الأمراض البيئية منها والعضوية والنفسية والاجتماعية.
إن المناطق الحضرية تتمدد عشوائياً في الريف جارفة في طريقها أرضاً زراعية قيمة وإن قرى بأكملها يتم ابتلاعها، ولقد تحولت حقول زراعية بالقرب من المدن الرئيسية مثل القاهرة، بغداد، دمشق، بيروت، إلى مناطق سكن عشوائية أو مدن صفيح أو عمارات سكنية عادية، وبعد أن كانت تلك الحقول تمد المدن بالخضار والفواكه أضحت بيئات سكنية غير كاملة المواصفات من حيث النظافة والشروط الصحية المناسبة، ولم تعد مناسبة للغطاء الزراعي.
إن الأزمة التي تعيشها المدن العربية تتفاقم أكثر في ظل غياب المساكن السكانية لاحتضان هذا الكم الهائل من الناس، وترتفع قيمة الإيجارات إلى مستويات خيالية مخيفة في كثير من الأحيان، وتمتلئ مراكز المدينة وأسواقها بالسكان، واستدراكاً وامتصاصاً لهذه المشكلة أقيمت في مدينة حلب جدران في البيوت القديمة ذات الأفنية والتي كانت تضم من قبل أسرة واحدة بحيث قسمت إلى شقق تشغلها عدة أسر لكل منها قطعة صغيرة من الفناء.
ومن المفارقات العجيبة أنه بالرغم من ندرة المساكن إلا أنه هناك الكثير من البنايات والمساكن الخالية من السكان احتفظ بها أصحابها لأهداف تجارية صرفة، ويبرر أصحاب هذه المساكن في (القاهرة - حلب - دمشق - بيروت) خلوّها من السكان بأنهم مضطرون لذلك بسبب القانون الذي يجعل من المستحيل تقريباً إخلاءها إذا تم تأجيرها.
إن هذه الأزمات الحادة التي تعانيها المدينة العربية تتطلب حلاً، وهذا الحل سيكون بإنشاء مساكن جديدة، وتوسع مدني، ولكن العديد من المشاريع فشلت، في هذا الصدد نذكر على سبيل المثال في مصر (في عهد السادات) تم وضع مخططات لإنشاء ثلاث مجمعات جديدة - العاشر من رمضان - مدينة السادات - مدينة الأميرية الجديدة.
وكانت الخطة استيعاب كل منها نصف مليون إنسان بحلول العام 2000 ولكنها فشلت في ذلك لأسباب متقاربة، ويعود ذلك إلى عدم تلاؤم الإنسان في العالم العربي المتميز بخصوصية ونفسية وروحية وتقاليد خاصة تتناقض مع واقع وبيئة وسكن له طابع غربي، محول على عقل ويد وممارسة مقاولي وتجار العقارات والبناء إلى «علب كبريت» جامدة، وجرت محاولات مماثلة في مدن الخليج وفشلت هي الأخرى - في معظمها - لأسباب مماثلة، ويشار هنا إلى أن العيب ليس في البناء الغربي بحد ذاته وإنما في تنفيذ النموذج الغربي الحرفي والكامل - إن جاز التعبير - في المنطقة العربية التي تختلف ببيئتها ونمطها البيئي والاجتماعي عن البيئات الغربية.
لقد قفز الاستهلاك المنزلي في مدن الخليج عالياً دونما ضابط من أجهزة القياس في معظم الأحيان، وتوضح حالة الكويت الحاجة الماسة والمتزايدة للماء.
وقد كان بوسع الطبقات الصخرية المائية المحلية الوفاء باحتياجات السكان من الماء، إلى أن ازداد الطلب في بواكير هذا القرن وأرسلت المراكب الشراعية التقليدية المعروفة باسم «البوم» لجلب المزيد من المياه العذبة من شط العرب.
إن الاستهلاك المنزلي في الكويت تضاعف خلال الفترة من الخمسينيات إلى السبعينيات أربع مرات تقريباً، ومن أجل مواجهة الطلب بنيت محطات لتحلية المياه، وبالنسبة لدول المغرب العربي وطبقاً لمعطيات البنك الدولي فإن نحو 45 في المئة من المغاربة يقطنون المدن حالياً بالمقارنة بنسبة تقل في العام 1960 عن ثلاثين في المئة، وبالمثل يعيش نصف الجزائريين وأكثر من نصف التونسيين في المدن، إن هذه المظاهر من الأزمة المتفاقمة في المدينة العربية تتطلب - بطبيعة الحال - حلاً لها، وهذا الحل لن يكون سوى التخطيط العمراني، الذي يمكنه وحده ضبط الأزمات وحركة السكان والعمران بشكل يحافظ على صحة الإنسان وسلامته، وفي الآن نفسه على جمال وحيوية ونشاط المدينة، والتخطيط العمراني مهم جداً لأي مدينة، وفيما يلي سنتناوله بشيء من التفصيل:
لنبحث في البداية عن ماهية التخطيط العمراني، وللوصول إلى فهم لهذه الماهية يمكننا إيراد بعض التعاريف لتقريب مفهوم «التخطيط العمراني» من ذهن القارئ:
تعريف أول: «التخطيط العمراني هو علم وفن وتقنية وسياسة ومهمته وضع نظام وظيفي واقتصادي وفراغي في المكان المأهول».
تعريف ثانٍ: «التخطيط العمراني يهدف إلى الاهتمام بالتنظيم الشامل للمدن والحواضر بغية توفير ظروف حقيقية وكاملة للإنسان ليعيش وينتج ويستجم».
تعريف ثالث: «التخطيط العمراني هو نظرية وممارسة لتخطيط المدن وبنائها، ويشمل ذلك مجموعة من التدابير الاجتماعية والاقتصادية والصحية العامة والبنائية التقنية والمعمارية».
وتعرف «الموسوعة البريطانية المختصرة» التخطيط العمراني بقولها: «التخطيط العمراني برنامج وأساس تخطيطي إلزامي لبناء المكان المأهول ومحيطه وإعادة بنائهما وتجميلهما وتطويرهما الشامل، وذلك لفترة تتراوح بين 15-20 سنة في إطار خطط الاقتصاد الوطني».
ويربط الدكتور أحمد الغفري بين المدينة واحتياجاتها من جهة والتخطيط العمراني من جهة أخرى، فيقول «إن المدينة تجسد على أرض الواقع الحياة الإنسانية العصرية اليوم، والعصرية بالأمس، والعصرية في المستقبل، وتحتاج إلى متطلبات، وعلى التخطيط العمراني تلبيتها جميعاً، لكي يتمكن الإنسان من ممارسة حياته الإنسانية دون أزمات».
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2937 - الإثنين 20 سبتمبر 2010م الموافق 11 شوال 1431هـ