العدد 2414 - الأربعاء 15 أبريل 2009م الموافق 19 ربيع الثاني 1430هـ

كيم فيلبي: غواصة سوفياتية في بيروت ونهاية سعيدة في موسكو

«حلقة كامبردج» جواسيس للسوفيات وفضيحة إنجليزية دائمة

في السادسة من بعد ظهر ذلك اليوم يهتف رجل لزوجته ليقول لها إنه سيلاقيها إذ إنهما مدعوان على العشاء عند أصدقاء في ذلك المساء. لكن الرجل لن يذهب أبدا إلى ذلك العشاء. إذ في الوقت نفسه، أي في الوقت الذي كان ينبغي عليه أن يلتقي وزوجته بالأصدقاء أصحاب الدعوة، كان وصل إلى متن غواصة تمخر مياه البحر على بعد عشرات الأمتار من فندق «سان جورج» الذي كان في ذلك الحين واحدا من درر السياحة في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه وكرا من أوكار التجسس في طول المنطقة وعرضها.

كان اسم الرجل كيم فيلبي. وهو عبر ذلك الهروب الذي نظمته وكالة الاستخبارات السوفياتية (ك جى بى) كما يمكننا أن نفترض، إنما وضع حدا لأربع سنوات من العيش القلق في بيروت. ولكن أكثر من هذا، لسنوات طويلة من الحياة المزدوجة. هذه الحياة كان كيم فيلبي قد اعتاد على التعامل معها في البداية، غير أنه في النهاية سئم ذلك كله، وخصوصا أن الكماشة راحت تنطبق عليه من قبل رؤسائه في أجهزة الاستخبارات البريطانية. والواقع أن حياة كيم فيلبي المزدوجة كانت على علاقة بهذا كله، فهو من ناحية كان يعمل لصالح المخابرات السوفياتية، ومن ناحية ثانية كان مسئولا في أجهزة المخابرات البريطانية.

كان، باختصار، شخصا جديرا بأن يكتب عنه غراهام غرين رواية كاملة. وغرين كتب بالفعل رواية، ولكن عن آخرين تربطهم بفيلبى صلات عدة. أما جون لوكاريه، البريطاني الآخر الذي كتب عن جواسيس صاحبة الجلالة، والجواسيس العاملين ضد صاحبة الجلالة، فإنه كتب بدوره لكن أيضا عن زملاء لكيم فيلبي.

وذلك بكل بساطة لأن حال فيلبى تعصى على الكتابة، حال استثنائية. تماما كما أن نهاية حكايته كانت استثنائية.


حلقة كامبردج والحرب الباردة

لكي نضع الأمور في نصابها، لا بد أن نشير إلى أن كيم فيلبى لم يكن حالا فريدة من نوعها، بل إنه واحد من خمسة (على الأقل، ويقال من ستة وربما أكثر) يشكلون معا ما يسمى بـ «حلقة كامبردج». وأفراد هذه الحلقة هم البريطانيون الذين اعتنقوا الماركسية كراهية بالتاج البريطاني في سنوات الثلاثينيات، فكان أن تلقفتهم أجهزة المخابرات السوفياتية بعد ذلك بسنوات لتجعل منهم عملاء لها... ربما لم يكونوا أبدا أقوى عملائها، لكنهم كانوا الأشهر على أية حال، إلى درجة أن حكاياتهم لا تزال تروى حتى اليوم، بعد زوال الاتحاد السوفياتي وأجهزة مخابراته، وانتهاء الحرب الباردة.

وبين هؤلاء الخمسة كان فيلبي الأكثر شهرة. وفي موسكو لا يزال كثيرون ينظرون إليه كبطل من أبطال الاتحاد السوفياتي، ويزورون قبره بكل تبجيل واحترام. فالناس هناك لئن كانوا يميلون إلى نسيان كل ما يمت إلى الماضي بصلة، لن ينسوا أبدا أن المعلومات التي وفرها فيلبي للمخابرات السوفياتية خلال الحرب العالمية الثانية أنقذت ألوف الأرواح في المعارك مع النازيين.

ولئن كانت حال فيلبي تستوقفنا لهذا السبب، فإنها تستوقفنا أيضا للسبب الآخر وهو أن الرجل عاش آخر سنوات حياته، قبل أن ينكشف، في بيروت، وكان جزءا من حياتها الاجتماعية أواخر الخمسينيات، كما أنه كان ابنا للمستشرق الشهير الحاج عبدالله فيلبي، ذلك الأرستقراطي البريطاني المثقف الذي عاش في الشرق واعتنق الإسلام، ولم يتوقف أبدا عن إبداء كراهيته لمؤسسة الحكم البريطاني التي خدعت العرب وأفشلت، ذات يوم، أحلامهم في بناء مملكة عربية موحدة.

هذه الكراهية لمؤسسة الحكم البريطانية، تلقاها كيم عن أبيه. وهكذا ما أن وعى الحياة والواقع السياسي حين كان يتلقى العلم في كلية «ترينيتي» في كامبردج، هو الذي ولد العام 1912 في الهند، حتى وجد في الماركسية ضالته فاعتنقها لرغبة منه في تحقيق الثورة العالمية. وهناك في الكلية نفسها تعرف إلى الأربعة الآخرين الذين سيشكلون معه، لاحقا، حلقة التجسس لمصلحة السوفيات التي ستعرف باسم «حلقة كامبردج»: غى يارغس، دونالد ماكلين، انطوني بلنت، وجون كرنكروس. كان الخمسة ماركسيين في البداية، لكنهم أبدا لم ينتموا إلى أي حزب شيوعي. وحتى حين راحوا يتجسسون لمصلحة السوفيات، ستقول الحكاية أنهم تجسسوا مجانا من دون أن يطلبوا لقاء «خدماتهم» فلسا واحدا. كانوا يتجسسون عن قناعة، وكراهية بالغرب وبمؤسسات الحكم فيه، أكثر مما كانوا يتجسسون لفائدة ما. هذا الأمر الذي كان معروفا منذ أواسط الخمسينيات، وتحديدا منذ انكشف أمر أولهم، دونالد ماكلين، بداية تلك السنوات في واشنطن، عاد ليؤكده بعد ذلك بأكثر من أربعين عاما، يوري مودين، ضابط الـ «ك جي بي» السوفياتي الذي كان مكلفا بالتعامل معهم من قبل السلطات السوفياتية، ووضع عن ذلك كتابا عنوانه «رفاقي من كامبردج» روى فيه كل ما يمكنه أن يرويه عن تلك المغامرة التجسسية – الأيديولوجية الاستثنائية.

يروي مودين في كتابه أنه «التقى» بفيلبى ورفاقه، للمرة الأولى، في صيف العام 1942، لكنه لم يلتق بهم إلا عبر الورق والميكروفيلم. في ذلك الحين كان الخطر النازي محدقا بموسكو. وفيلبى ورفاقه لم يكونوا بالنسبة إلى مودين سوى أسماء لأشخاص يرسلون إلى العاصمة السوفاتية كما كبيرا من المعلومات. وفي مبنى «لوبيانكا» (مركز الاستخبارات السوفياتية) كان ثمة أعجاب كبير بهم، بسبب ذكائهم ومهارتهم وأيضا... لأنهم يخدمون القضية السوفياتية عن قناعة وليس عن عمالة. الخمسة في «حلقة كامبردج» كانوا – حسب مودين – يعتقدون أنهم يساهمون في خلق عالم جديد. لم يكونوا مولعين بالاتحاد السوفياتي ولا معجبين بستالين، ولم يكن أي واحد منهم يتصور أنه يمكنه أن يعيش حياته كلها في موسكو. حيث لا حانات انجليزية، لكنهم كانوا يؤمنون أنهم بعملهم أنما يخدمون الثورة العالمية التي لن تقوم إلا حين تصبح انجليزية اللغة.

كان الخمسة من أولئك الذين كفوا عن الإيمان بقيم انجلترا، الدولة – المؤسسة التي ينهكها الانهيار والتشاؤم وانجذاب نخبتها المثقفة – بمن فيها بعض أفراد العائلة المالكة – إلى النازية. كان أكثر ما يغيظهم تردد تشامبرلن واتفاقات ميونيخ وحكاية غرام ادوارد السابع. كل هذا، أذن، حركهم.

وكان أول المتحركين من بينهم فيلبي.


بداية الفضيحة الكبيرة

عندما تحرك فيلبي، أذن، لم يكن ليخطر في باله أن حياته ستنتهي على الشكل الذي انتهت عليه: شكوك تحيط به، أقامة في بيروت حيث كان أرسل من قبل أجهزة الاستخبارات البريطانية لجمع المعلومات عن نوايا جمال عبدالناصر ومخططاته للسيطرة على العالم العربي، ثم انكشاف أمره، وهربه إلى موسكو على متن غواصة. صحيح أن فيلبي كان الوحيد من بين الثلاثة الذين هربوا إلى موسكو (هو وماكلين وبارغس)، الذي أحس في العاصمة السوفياتية وكأنه سمكة تسبح في البحر، حيث أضحى كولونيلا في الجيش السوفياتي وأستاذا، قبل أن يموت بكل هدوء. ولكن وكما يحدث في روايات لوكاريه وغراهام غرين، كان الرجل شخصية إشكالية يخفى أكثر مما يبطن ويعيش أيامه كما هي، مخفيا أحباطاته.

ومن هنا حين يتذكره بعض أبناء مجتمع بيروت في تلك الأيام، يندر لهم أن يقولوا: إنه رغم كل القلق الذي كان يعيشه، لم يكن يبدي أي انفعال على الإطلاق. كان فيلبي رجلا تعلم كيف يخفي انفعالاته. لم تكن له، بالطبع ملامح جيمس بوند ولا أخلاقه. لكنه ورث عن أبيه الكبير قدرة هائلة على استيعاب المواقف.

من هنا، ثارت الشكوك في أجهزة الاستخبارات البريطانية، من حوله للمرة الأولى، إثر هرب ماكلين ومعه بارغس (حين انكشف أمرهما رغم كل محاولات فيلبي للالتفاف على ذلك) ظل فيلبي يراوغ سنوات طويلة، يعيش بهدوء ويمارس عمله ويتصل بالسوفيات، بل أيضا يجهز نفسه لتسلم رئاسة الـ «إم-آى6» وهو جهاز المخابرات البريطاني الخارجي، من دون أن يرف له جفن. صحيح أن الشكوك التي حامت من حوله أبعدته عن تلك الرئاسة، وحرمت السوفيات من مصدر هائل للمعلومات، لكن الرجل ظل هادئا خلال سنواته البيروتية، إلى درجة فقد رجال المخابرات البريطانية المكلفون بالتحري عنه، أعصابهم، وكادوا يؤمنون بأنه خادم أمين للتاج البريطاني. ولكن الأميركيون كانوا بالمرصاد فقدموا للانجليز - كما تقول أحدى الحكايات المتناقلة - ما عجل من انكشاف أمر فيلبي، فاضطر للهرب من بيروت على تلك الشاكلة.


فيلبي أسطورة

وحين هرب فيلبي من بيروت على متن الغواصة الروسية، تحول شك البريطانيين إلى يقين، وتحول الرجل إلى أسطورة. وراح معارفه اللبنانيون خصوصا يتذكرون كل حركاته وسكناته علهم يلمحون فيها ما كان من شأنه أن يكشف أمره أمامهم.

وتناقل كثيرون قصة حياته وهللوا حكاية «حلقة كامبردج» علما بالأسماء المعروفة من أعضاء الحلقة كانت، في ذلك الحين، ثلاثة: ماكلين، بارغس وفيلبي، أما انطوني بلنت وجون كيرنكروس، فلن ينكشف أمرهما إلا لاحقا. ولئن كان انكشاف كيرنكرس مرّ مرور الكرام، باعتبار أنه كان الأقل ارستقراطية بين الخمس فإن انكشاف بلنت شكل الصدمة الأكبر، لأن الرجل حين انكشف أمره كان يعمل مستشارا فنيا للقصر الملكي البريطاني، ويتولى مسئولية الحفاظ على مقتنيات الملكة اليزابيث الفنية، وتساءل كثيرون: ترى ما الذي جعل هذا الناقد والمؤرخ الفني الكبير عميلا للسوفيات؟ كيف كان بإمكانه وهو الملقب بـ «دافينشي المعاصر» أن يخط تقارير تجسسية ومجانا، من دون أن ينال قرشا من السوفيات؟

حكاية بلنت تشبه حكاية فيلبي، وحكايات الآخرين، مجموعة من الطلاب الأذكياء، المتمردين في انجلترا الخيبات، عالم الصراعات، حركهم الأمل في قيام عالم أفضل، ودفعهم وضع بريطانيا وطبقتها العاملة الخاضعة لحزب العمال، إلى اليأس وخصوصا أنه وضع كان يشكل أفضل حاجز في وجه قيام أية ثورة عمالية على الإطلاق.

في العام 1933 ترك فيلبي الجامعة مزودا بدبلوم في الاقتصاد السياسي، مشبعا بقناعات اشتراكية لن يتخلى عنها أبدا. وفي العام التالي نراه في النمسا يشهد قمع شرطة المستشار دولفوس للتظاهرات العمالية ويتزوج مناضلة شيوعية ألمانية هي اليس فرديمان، التي سيوجد من يقول إنها هي التي قادته إلى المخابرات السوفياتية. لدى عودته إلى لندن مع زوجته ينخرط فيلبي في العمل الصحافي. ومما لا شك فيه أنه ينضم إلى المخابرات السوفياتية بين العامين 1934-1935، في العام نفسه الذي ينضم فيه الأربعة الآخرون إلى تلك المخابرات. وفي العام 1935 يبدأ بإظهار رغبات في الانفصال عن اليسار، ويرتاد أوساط النازيين البريطانيين. وعلى هذا النحو تكتشفه أجهزة المخابرات البريطانية وتضمه إلى صفوفها، غير عارفة طبعا بأنه على اتصال يومي بالسوفيات... لكنه كان في ذلك الحين مجرد مخبر صغير لدى الانجليز...

لقد كان أذكى من أن ينكشف. وهكذا تمكن بفضل عمله مع المخابرات البريطانية من أن يقدم لرفاقه القدامى خدمات لا تقدر بثمن، ولاسيما خلال الحرب الأسبانية حيث نجده في أسبانيا يعمل على جبهتين: جبهة المخابرات الانجليزية وجبهة المخابرات السوفياتية، يخدم الأولى طبعا ويقدم خدمات أجلّ للثانية. ودائما تحت غطاء العمل الصحافي. غير أنه لم ينضم فعليا إلى المخابرات البريطانية إلا بعد عودته من أسبانيا، وذلك في العام 1940. يومها حققت أجهزة المخابرات هذه حوله، فكانت النتيجة أنه «لا يمكن أن يؤخذ عليه أي مأخذ» ولأنه واسع الاطلاع عن شئون التخريب، وعلى اتصال باللاجئين الهاربين من أسبانيا، من أبناء دول أوروبا الشرقية، كان من الطبيعي أن يعين في جهاز مكافحة الشيوعية. وهكذا بدأت حياته الحقيقية.


النهاية بالمرصاد

كان ذلك خلال السنوات الأولى للحرب العالمية الثانية، وكان ثمة من التحالف بين موسكو ولندن ما من شأنه ألا يضع فيلبي أمام حال عذاب ضمير. وهكذا خدم السوفيات طوال فترة الحرب ودائما بتكتم وحذر، إلى درجة أنه عين بعد عمل مجتهد في شمال إفريقيا طوال فترة الحرب على رأس جهاز جديد أنشئ لكشف الجواسيس السوفيات!


ترى هل كان بإمكانه أن يحلم بأفضل من ذلك الوضع؟

المهم، واصل فيلبي صعوده طوال سبع سنوات تالية... تنقل خلالها بين العواصم العربية والمتوسطية، وغير زوجته، وتمكن من تسليم دبلوماسي سوفياتي في اسطنبول يدعى فولكوف كان اتصل به معلنا رغبته في الفرار من السوفيات وتسليم الانجليز أسرارا تتعلق بجواسيس انجليز يعملون لمصلحة موسكو!

كل شيء في حياته كان يبدو مريحا وسعيدا، لولا حكاية ماكلين الذين كان في واشنطن يعمل في السفارة البريطانية، ويسلم السوفيات أولا بأول أسرار الغرب، ذات يوم اقترف ماكلين خطأ فادحا، حين استخدم الشيفرة نفسها في رسالتين متتاليتين. وهكذا تمكن الأميركيون من متابعة أول خيط سيقودهم بعد سنوات إلى كشف أمر ماكلين... وبعد ماكلين كان بارغس الذي افتضح أمره بسبب صداقته مع ماكلين.

بداية العام 1951 تعاون فيلبي وبارغس لتهريب ماكلين إلى موسكو. فخاف بارغس وهرب معه. وبدأ شيء من الشك يحوم حول فيلبي. في البداية قاوم كل الشكوك. لكن الكماشة كما أشرنا راحت تحيط به. وفي بيروت كانت نهايته. ذهب إليها والتحقيقات تدور في شأنه، تحت غطاء صحافي يعمل في شرق أوسط يغلي بالشعور القومي ويحاول السوفيات، بكل الوسائل دخوله. وفي بيروت قاوم التحقيقات طوال سنوات، حتى لم يعد في وسعه أن يقاوم.

فكانت الغواصة الشهيرة في مياه خليج سان جورج، وفقد المجتمع المخملي صديقا انجليزيا، هادئا بشوشا، يفتخر بين الحين والآخر بأنه مستشرق اعتنق الإسلام.

العدد 2414 - الأربعاء 15 أبريل 2009م الموافق 19 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً