العدد 2414 - الأربعاء 15 أبريل 2009م الموافق 19 ربيع الثاني 1430هـ

بداية الاستيطان في جزر البحرين

بناء نموذج الاستيطان على جزر البحرين قديما

لقد وُجدت آثار للاستقرار على جزر البحرين يعود أقدمها لأكثر من 7000 سنة من الآن. ولقد تحولت منطقة رأس القلعة على الشاطئ الشمالي لجزيرة البحرين منطقة رئيسية للاستقرار. حيث يوجد بها خمس مدن بنيت واحدة فوق الأخرى, وتعود كل مدينة لحقبة مختلفة من الزمن. وبالإضافة لهذه المنطقة الرئيسية للاستقرار كانت هناك محطات مختلفة من الاستقرار منتشرة على الجزيرة.

وعلى مدى الحقب المختلفة التي مرت بها البحرين حدثت هناك تغيرات للأرض ومدى استغلال الإنسان لها. ففي فترات تاريخية يلاحظ أن معظم الأراضي استخدمت في الزراعة والرعي, وفي فترات أخرى يلاحظ استخدام جزء بسيط منها. وحسب المنطقة الزراعية القابلة للزراعة ومدى استغلالها وآثار الاستيطان المصاحبة في كل حقبة يمكننا التكهن بعدد السكان في تلك الحقبة.

وقد قسمت فترات الاستيطان إلى عدة فترات وكل فترة من هذه الفترات لها مميزاتها من حيث توافر المياه واستغلال الأرض وعدد السكان والظروف البيئية المختلفة, وقد قدم لارسن في دراسته عن تكون وتطور المجتمع البحريني القديم تقديرات لمساحات الأرض المزروعة في كل حقبة من حقب التاريخ التي مرت بها جزيرة البحرين ومنها استنتج أعداد السكان في تلك الحقبة. ويوضح الجدول التالي أهم تلك الحقب ومساحة الأرض المزروعة في تلك الحقبة وعدد السكان المتوقع فيها, ومن خلال هذا الجدول سنحاول استنتاج نموذج الاستيطان في جزر البحرين قديما.


بناء نموذج الاستيطان

يلاحظ من الجدول السابق أنه حدث نمو سريع في شعب جزيرة البحرين ثم تلاه تناقص في السكان في الفترة الكاشية. وفي الواقع أن الفترة مابين 1700 ق.م و700 ق.م شهدت تناقصا ملحوظا في مناطق الاستيطان ومساحة الأرض المستخدمة؛ ما يدل على تناقص في عدد السكان. ولابد أنه كانت هناك مجموعة من الأحداث التي أدت لهذا التناقص. في علم وراثة الشعوب يستخدم مصطلح أحداث «عنق الزجاجة» للإشارة لمجموعة الأحداث التي أدت لتناقص أعداد مجموعة من السكان على مدى فترة طويلة من الزمن. ومعنى ذلك أن الأعداد الغفيرة من السكان تعرضت لمجموعة من الأحداث أدت لغربلتها وبذلك أدت لأعداد أقل من السكان لكنها تحمل عوامل وراثية معينة جعلتها أكثر تكيفا مع البيئة المحلية. هذه الأحداث تشبه بعنق الزجاجة الضيق الذي يسمح فقط لعدد معين من السكان ذي طبيعة معينة بالعبور من خلاله. وبذلك لا نحصل فقط على أعداد أقل من السكان بل أيضا على أعداد أقل من التنوع الجيني, وذلك بسبب أن جماعات أقصيت من الاستمرار في البقاء على أرض جزيرة البحرين ربما هاجرت.

ويلاحظ من الجدول أن الفترة الهلنستية شهدت زيادة في أماكن الاستيطان والمساحة المستخدمة من الأراضي؛ ما يدل على زيادة في أعداد السكان. وهذا يعني أن الجماعة المتبقية الناتجة من أحداث «عنق الزجاجة» توسعت وانضمت لها جماعات أخرى لتكوين مناطق استيطان جديدة. ولكن يبقى أصل نواة كل مستوطنة جديدة قد جاء من الجماعة الأصلية المتبقية. وفي علم وراثة الشعوب يسمى هذا النمط من التوسع «بتأثير المؤسس». أي أن هناك عوامل وراثية مشتركة بين كل المجموعات الجديدة المتكونة وذلك بسبب أن نواتها جاءت من أصل واحد.

نستنتج من كل ذلك أن سكان البحرين قديما تكون بفعل أحداث «عنق الزجاجة» متبوعا «بتأثير المؤسس». وحتى نتمكن من إثبات ذلك بصورة علمية لابد من سرد تفاصيل تطور المجتمع البحريني القديم، موضحين أحداث «عنق الزجاجة» التي أدت لتناقص أعداد وغربلة المجموعات السكانية القديمة. وفي حال حدوث «أثر المؤسس» ما هي تلك العوامل الجينية المشتركة بين هذه الجماعات والتي ربما تكون سبب الانتقائية الإيجابية لتلك المجموعات.


تسلسل الاستيطان على جزر البحرين الفترة 5000 - 4000 سنة قبل الميلاد

عندما نتابع الأحداث الجيولوجية التي تعرضت لها جزر البحرين نرى أن الجزيرة كانت مغمورة بالماء فقد كان مستوى البحر مرتفعا وبدءا من العام 15.000 قبل الميلاد غمرت مياه البحر المنطقة بأكملها. وكان الارتفاع في مياه البحر نحو العام 6000 قبل الميلاد سريعا، عشرة أمتار لكل ألفية، أي الحد الأقصى, قبل أن يتذبذب منذ هذا التاريخ ما بين متر إلى مترين فوق ذلك أو أقل منه. فمثل هذه التغيرات في إقليم منبسط لم تكن بلا دلالات، فقد أدت إلى جفاف أو فيضان مساحات شاسعة، وفقا للوضع القائم، مكونة مساحات من المياه الضحلة والبحيرات أو صبخات تكتسحها رمال الصحراء. وفي حوالي الفترة نفسها بدءا بعام 8000 قبل الميلاد، وربما لكي نكون أكثر دقة ما بين 6000 و4000 قبل الميلاد، كانت الظروف المناخية أشد رطوبة قليلا من ما هي عليه الآن سمحت لنمو مساحات من مستنقعات أشجار المنغروف على حافة هذه البحيرات الساحلية. وقد أوجدت المتجمعات البشرية آنذاك أنظمة اقتصادية مكنتها من جميع الغذاء على مدار العام.

أما المنخفضات الوسطى والجنوبية فقد امتلآ بالمياه العذبة مكونة بحيرات في فترات متقطعة؛ ما ساهم على نشوء استيطان لجماعات بشرية حول هذه البحيرات.

من تلك الظروف يمكننا أن نستنتج أنه قبل سبعة آلاف سنة من الآن (5000 سنة قبل الميلاد) لم تكن جزيرة البحرين كما نعرفها الآن فمياه البحر كانت مرتفعة أكثر من مترين على ما هي الآن وهذا يعني أن الأراضي الساحلية المعروفة الآن كانت مغمورة بالمياه ما عدا الأماكن المرتفعة وكانت الأمطار غزيرة بما فيه الكفاية لتملئ الأحواض الداخلية للجزيرة مكونة بحيرات كبيرة لذلك كانت غالبية السكان القاطنين الجزيرة يسكنون بالقرب من تلك البحيرات معتمدين في حياتهم على جمع الثمار والصيد، أي كانوا يعيشون حقبة العصر الحجري, تشهد بذلك المواقع الأثرية التي تميزت بوجود حجر الصوان المشكل على هيئة أدوات قنص وأدوات قشط وقطع.

ولكن لم يستمر الحال كما هو عليه بل بدأت حقبة من الجفاف تعصف بالجزيرة وبدأ الطمي والغبار يترسبان في قيعان البحيرات شيئا فشيئا حتى جفت بأكملها قرابة 4000 سنة قبل الميلاد وقد تواكب مع عملية الترسيب وقلة الأمطار هبوط نسبي في مستوى البحر وتراجع خط ساحل البحر.

وهكذا بدأ السكان بالزحف نحو الساحل وتزداد علاقتهم بالبحر, فيعتمدون على البحر بنسبة أكبر مما كان عليه في السابق. ومن أقدم المناطق الساحلية المعروفة في سجل تاريخ البحرين التي استوطنت هي المنطقة الواقعة بالقرب من رأس الجزائر, خلف محمية العرين حاليا, وهي المنطقة التي أطلق عليه اسم المرخ (وهي غير قرية المرخ), وقد عرفت بذلك بسبب وجود مجمعات كبيرة من نبات المرخ الذي يكاد يكون النبات الوحيد في تلك المنطقة.

ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أنه لم يتم العثور على أي شيء يمكن أن ينسب بالتأكيد إلى فترة العصر الحجري القديم سواء في البحرين أو في الخليج، حيث ان الأدوات المصنوعة من حجر الصوان يعود تاريخها إلى الألفية الثامنة والسابعة قبل الميلاد. ومتى ما علمنا المتغيرات البيئية الواردة أعلاه، فإن هذا أبعد ما يكون مفاجأة، حيث أن المستوطنات الأولى، إن وجدت، كما هو محتمل، كانت تغمرها مياه الخليج، وهي إقليم مفقود من الجزيرة العربية في عصور ما قبل التاريخ ويصعب الوصول إليها باستخدام تقنيات علم الآثار الحالية. وقد تم التعرف على هذه الأدوات الأولى في قطر في الخمسينيات من القرن الماضي فيما عرف بالمجموعة (ب) من قبل علماء الآثار الدنماركيين، وتمتاز هذه الأدوات برؤوس الحراب المحدبة المصنوعة من شفرات من حجر الصوان، تتشابه خصائصها مع صناعات الفترة نفسها في شمال فلسطين والجزيرة العربية، التي من الممكن أن تكون لها صلة بهما بطريقة ما. ولم يتم العثور عليها بعد بشكل مؤكد في البحرين. وبعد ذلك في الألفيتين الخامسة والرابعة نجد أدوات تتميز برؤوس سهام محدبة على شفرات من حجر الصوان مضغوط سطحها، تعرف بالمجموعة (د).

تم تحديد مناطق استيطان في جزر البحرين اعتمادا على ما وجد من أدوات صنعت من حجر تنتمي للمجموعة (د). وتم التعرف على عدة مواقع وجد بها هذا النوع من رؤوس السهام في الجزء الغربي من الجزيرة وعلى المنحدرات الغربية لجبل الدخان. كذلك فإن هذه الفترة تتميز بوجود كسر من الفخار الملون مطابق لذلك النوع الموجود في القرى الزراعية لحضارة العبيد من جنوب العراق. ففي الوقت الذي تابع السكان حياتهم على ما كانت عليه من الصيد والتقاط الثمار وشيء من الزراعة, كان في أنحاء أخرى من الخليج وبالتحديد في جنوب حضارة ما بين النهرين تخطى شعب تلك المنطقة حقبة العصر الحجري وظهر شعب كون حضارة متميزة بصناعة فخار مميز عرف هذا الفخار بفخار العبيد نسبة لتل العبيد الذي وجد أول مرة بالقرب منه وهكذا عرفت تلك الحضارة بحضارة العبيد. ويعتقد أن العبيديين قد كان لهم توجه بحري وكانوا يسافرون في زوارق على طول الساحل العربي ويجلبون معهم الأواني الفخارية المتميزة التي كانوا يصنعونها, وكانوا يستقرون على الجزر وسواحل شرق الجزيرة العربية ويخلفون وراءهم بصمتهم المميزة وهي أوانيهم الفخارية. ويحتمل أن يكونوا قد أقاموا علاقات مع السكان المحليين وأعطوهم أو باعوهم أوانيهم الفخارية المطلية ربما مقابل سلع أخرى. وبذلك يكونون قد أدخلوا لتلك المناطق تقنية جديدة وهي تقنية الفخار.

وقد بدأ ظهور فخار العبيد في البحرين بانتهاء الألف الرابع قبل الميلاد حيث وجدت هذه الكسر بشكل خاص في مستوطنات صيادي السمك في منطقة المرخ، حيث كشفت التنقيبات عن علامات أعمدة مبنية من مواد خفيفة. وقد بينت تحاليل الفخار بشكل جلي أن منشأ الفخار هو بلاد ما بين النهرين. ومن المناطق الأخرى التي وجد فيها هذا الفخار هي عالي ومنطقة أخرى بالقرب من الدراز وبني جمرة وقرية المرخ. وكانت قد وجدت آثار أقدم من فخار العبيد في سار.

تلك النتائج أدت لاستنتاج أن أولى المناطق الساحلية التي سكنت في البحرين هي الخط الساحلي الغربي الممتد من الشمال من حدود الدراز الداخلية مع بني جمرة مرورا بالمرخ وبني جمرة وسار وانتهاء بمنطقة المرخ في رأس الجزائر, أي على امتداد 30 كم.

نلاحظ أن تلك الأماكن الساحلية التي سكنها شعب تلك الحقبة تمثل المناطق المرتفعة القريبة من السواحل والسبب في ذلك كما قلنا هو ارتفاع منسوب مياه البحر الذي كان يغطي المناطق الساحلية المنخفضة المعروفة حاليا. والثابت أن سكان تلك الفترة كانوا يعيشون على الزراعة وصيد البر والبحر.

العدد 2414 - الأربعاء 15 أبريل 2009م الموافق 19 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً