باستثناء القطب الجنوبي فكل يابسة المعمورة موزعة على ما يقارب مئتي دولة. وإذا ما قاربنا مفهوم الدولة في سياقات حقوقية وسياسية واجتماعية تأخذ كل دولة واحدة أو أكثر من التسميات المختلفة كدولة الحق والدولة الوطنية وغيرها. كما درج استخدام مفهوم الدولة الفاشلة الذي ينطبق، لشديد الأسف، على عدد، قد يتزايد لا سمح الله، من بلداننا العربية المبتلاة.
العولمة بما هي عليه اليوم لا تساعد على بناء الدولة الوطنية. ومنذ البدايات قال الرئيس بوش في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2000 أنه لا يعتقد بوجوب استخدام القوات الأميركية من أجل ما يسمى ببناء الدولة الوطنية، بل للقتال بهدف كسب الحرب. فيما بعد ادّعى فرانسيس فوكوياما، منظّر «نهاية التاريخ» وبناء العالم على النموذج الأميركي أن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 غيّرت السياسة الأميركية وحولت بوش الابن من مناهض لبناء الدولة الوطنية في بلدان العالم الثالث إلى حامل لهذه المهمة في أفغانستان والعراق. وبالنظر إلى ما آلت إليه الأوضاع في هذين البلدين، ومصير مشروع الشرق الأوسط الكبير عموماً، بل وحتى أوضاع أميركا والعالم بعد الأزمة العالمية، فليس من الصعب إدراك أن جوهر رسالة أميركا واحد قبل وبعد سبتمبر 2001.
ولما تمثله العولمة من تهديد حقيقي لفكرة الدولة الوطنية فقد كثر في المقابل استخدام هذا المصطلح في بلدان المنطقة كوسيلة دفاعية. لكن التكرار المكثف لاستخدام مصطلح ما، مع غياب تصور واضح، وبتبسيط مبتذل أحياناً، وتوظيف سياسي أحياناً أخرى يفرغ المصطلح من مضمونه المطلوب، وقد يشحنه بمضامين مغايرة. فيجري، مثلاً، تقديم وظائف معينة للدولة على أنها الأساس دون سواها، أو أن يطابق مفهوم الدولة الوطنية بمفهوم الحكم، ومصالحها بمصالح القوى المسيطرة. وبهذا المضمون أيضاً تربط مفاهيم الأمن الوطني والوحدة الوطنية. ووفق مثل هذه التصورات لا يمكن تحقيق البناء المتوازن والمرن للدولة، القادر على تصحيح الاختلالات الناشئة في مسار التطور، بل يتحقق ذلك البناء الذي قد يرجح مصالح اقتصادية أو مالية معينة أو رؤى سياسية – أمنية خاصة أو استراتيجية تبعية... إلخ. فكيف يتطور بناء الدولة الوطنية لدينا؟
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي استطاعت الدولة أن ترسخ أقدامها في أهم المواقع الاقتصادية في البلاد بفضل المشاريع الصناعية التي بادرت الدولة إلى إنشائها. وإضافة إلى سيطرتها على صناعة النفط وتكريره فقد تمتعت بإمكانيات هائلة لاستمرار قيادة عملية التطور. غير أنها لم تعطِ العدالة الاجتماعية الاهتمام المطلوب. وكان سيساعد على تصحيح هذا الاختلال طريق بناء المؤسسات الديمقراطية الذي فرضته أجواء ما بعد الاستقلال، وإقرار دستور 1973، الذي أعقبه انتخاب أول مجلس نيابي. غير أن كل تلك كانت إمكانيات موضوعية للدولة، كامنة فحسب، للجمع بين التطور الديمقراطي والإمكانات الاقتصادية لصالح التنمية المستدامة. لكنه مع طفرة ارتفاع أسعار النفط لأربعة أضعاف استجابت الدولة لإغراء استبدال تطوير الاقتصاد الإنتاجي باقتصاد الخدمات والتطور الديمقراطي بالعودة إلى الوراء والعيش في مناخات قانون أمن الدولة السيئ الصيت.
بعد إطلاق المشروع الإصلاحي لجلالة الملك نشأت فرص مواتية لإعادة توازن بناء الدولة بأن تلعب مؤسسات الدولة الديمقراطية دورها في توظيف قدرات الدولة في التنمية الاقتصادية الاجتماعية الشاملة. غير أن قوى النفوذ الاقتصادي سعت، ويبدو أنها تنجح كثيراً، في تجريد الدولة من قدراتها الاقتصادية. فبالخطط الجدية لخصخصة أهم المواقع الاقتصادية كألمنيوم البحرين (ألبا) وطيران الخليج ومواقع مهمة أخرى في مقدمتها الصناعة النفطية، وفي ظل غياب نظام ضريبي مباشر وعادل على دخول الشركات، خصوصاً المستفيدة من تحول المسار الاقتصادي، فإنه يتم وضع الدولة في تناقض قاتل: يتم تجريدها من إمكاناتها الاقتصادية – المالية إلى حد العجز، وتتم في نفس الوقت مطالبتها بأداء التزاماتها وفق مبدأ العدالة الاجتماعية، في مقابل إعفاء ذوي النفوذ الاقتصادي من مثل هذه الالتزامات.
هذا النمط يسمح بتوافر مزيد من الفوائض المالية في أيدي ذوي النفوذ الاقتصادي. ولضمان بقائه تبرز الحاجة إلى أمرين: أولاً، التأثير على الدولة لكبح التطور الديمقراطي الذي يحدّ من تلك المصالح، وثانياً، استخدام جزء من الفوائض المالية لتوجيه الدعم المالي والمعنوي لرموز ومجاميع دينية طائفية تحت يافطات خيرية أحياناً وكدعم مباشر في أحيان أخرى بهدف توسيع القاعدة الاجتماعية لذوي النفوذ. ثم نستغرب عندما نكتشف أن مصادر تمويل محلية تموّل خلايا إرهابية نائمة أو قائمة وأعمال عنف من جانب الطائفية. هذه القوى الاجتماعية «الجديدة» تستخدم ليس كفزاعة لتخويف السلطة السياسية، وإنما أيضاً للجم عملية التطور الديمقراطي الذي يمكن أن يقلص مصالح ذوي النفوذ لصالح تقوية مواقع الدولة.
وبعد أن ينجح ذوو النفوذ في إنعاش هذه الظواهر توضع الدولة أمام خيار على أنه الأوحد، وهو استمرار تدعيم تشكيلات القوة التابعة للدولة ومزيد من الصرف عليها كأهم ركن في بناء الدولة الوطنية في وجه ليس تشكيلات القوة المضادة للدولة فقط، بل ومن أجل الحد من الحريات السياسية ولجم التطور الديمقراطي. وهذه هي أداة ثالثة فعالة أيضاً لاستنزاف قدرات الدولة وإضعافها. بذلك كله تتحقق أيضاً أحد أهم نزعات العولمة المعاصرة: موت الدولة الوطنية ونشوء «الفوضى الخلاقة» لصالح فكرة الحكومة العالمية.
أما المصلحة الوطنية فتقتضي بناء الدولة الوطنية الذي يجعلها تؤدي وظائفها كاملة ومتكاملة لتحقق أهدافاً محددة تخدم استمرار بقاء الدولة وتعاظم قدراتها. في مقدمة هذه الأهداف حماية كامل المجتمع ومتطلبات تطوره. فبرأي فيلسوف القرن السادس عشر الفرنسي م. مونتين (1533 - 1592) أن «أفضل بناء دولة بالنسبة لأي شعب هو ذلك الذي يحافظ على وحدة الشعب». ولأهمية عدم مطابقة مصالح الدولة بمصالح ذوي النفوذ فقط، فيرى المفكر الأوكراني ليونيد سوخوروكوف أنه يجب أن «تبدأ الدولة من كل بيت، ومن كل من ليس له بيت أيضاً»... وأن عظمة الدولة تعتمد «... على عدد العمالقة الذين يسيّرونها»، وبالعكس، أن «الأمراض الاجتماعية هي بمثابة المرآة العاكسة لقيم قادة العقل الاجتماعي» من مفكرين وسياسيين.
البناء المتوازن للدولة الوطنية لا يمكن أن تؤمنه إلا عقول وأيدٍ وطنية حقاً، لا ترتهن إلى قوى خارجية سواء تمثلت في دول عظمى أو في التطرف العالمي، بل، وبالاستفادة من الخبرات العالمية الغنية، عبر الإرادة السياسية المشتركة بين السلطة السياسية والقوى المؤمنة بالديمقراطية في الدولة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالجليل النعيمي"العدد 2936 - الأحد 19 سبتمبر 2010م الموافق 10 شوال 1431هـ
بالارقام الاولية 2 مليار د ب عجز في موازنة الدولة
ما تقوله يا استاذ 100% مطابق للواقع اين ذهبت هذه الاموال؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ الجواب اصحاب النفوذ الاقتصادي طبعا وتوابعهم
بهلول
من هنا يتضح الفرق بين الدولة الوطنية والدولة الطينية التي لا شكل لها و لا لون محدد.
الفكر الوطني
اشاطرك الرأي بان بناء الدولة وتقوية مقوماتها وترسيخ وجودها وتأمين مسارات تطورها هي في حاجة الى مراعاة ضرورات توفر ضمانات التطور الاقتصادي السليم والعدالة الاجتماعية في مسار مناهج سياسات الدولة لبناء المجتنع المتكافئ في الحقوق والواجبات وتأكيد مبدأ الديمقراطية الشفافة لدعم تلك المسارات ومن الطبيعي ان يكون للمواطنة الحقيقية والكادر الوطني مكانة الفعلي في معادلة التطور وتعضيد مقومات مسارات تطور الدولة الوطنية وان ما طرحته من مرئيات يجسد نهج الفكر الوطني القويم.