كل الذين عرفوا الرجل كانوا يصفونه بأنه كان «موسوعة ضخمة من المعارف السياسية» وشاهدٌ مهم على التحولات السياسية التي شهدتها منطقة الخليج والشرق الأوسط إبان الأربعين سنة الأخيرة من القرن الماضي.
النعيمي ومنذ أن اتخذ من دمشق مقراً لنشاطه السياسي ومنفاه المجازي، كان مقصداً لنبلاء القوميين العرب ورفاق النضال والمهمومين بمصائر المنطقة العربية و»أوباء الأنظمة الدكتاتورية»، كما كان موئلاً لأحلام وطموحات مرحلة وجيل وأكثر. كان مثقلاً بواجبات اليوم المقبل دون أن يكون قد ارتاح من التزامات اليوم الذي مضى. وكان كما يقول: «ليس في مثل عمري يغير الإنسان معتقداته وأفكاره». وكان متألماً من غفوة شعبه الذي يراه يطيل التجوال وهو نائم.
الإجماع على موسوعية الرجل وسعة اطلاعه وضخامة ما يختزله من خبرة سياسية؛ يتجاوز عتبة التغني بمآثر وسجايا فكرية هي بالضرورة ليست حكراً على هذا المهندس المتخرج من الجامعة الأميركية في بيروت، سليل العائلة التي لها وجاهة اجتماعية ودينية ضافية، فما يخلق فرادة ويلتمع واضحاً في شخصيته بدرجة أكبر وأكثر إلحاحاً هو قدرته على تحريك مكامن العزيمة النائمة وإشاعة الأمل في نفوس من شاءت لهم الظروف أن يقتربوا منه ولو ساعة، أو أن ينعموا بمعرفته وصحبته.
باسماً وصموتاً هو أبو أمل، هكذا عثرت عليه، وهكذا قبضت على الانطباع الأول الذي خرجت منه بعد أول اقتراب شخصي لي منه.
الأريحية ذاتها هي من ستدفع الرجل إلى إحاطة رفيق النضال الوطني، الغريم الايديولوجي، القيادي الماركسي أحمد الذوادي بالمتابعة والحدب والتضامن الانساني عالي الوتيرة، ما جعل من عيني الذوادي تغرورق بالدموع وهو مستسلم إلى وهن المرض ومسجّى على سرير أحد مشافي دمشق حين كان يزوره مع إبراهيم كمال الدين وفي يد الأخير حزمة من الأزهار النباتية وفي قلبه يحمل باقة أخرى من ورود الحب والوفاء.
والأريحية ذاتها التي ستدفعه أيضاً إلى جمع مبلغ مالي كبير بالتآزر مع بعض الضمائر الوطنية النظيفة في تيار المنبر الوطني الديمقراطي للإسهام في علاج أبي قيس في الوعكة الصحية التي فارق فيها الحياة، والمبلغ مهما كان صغيراً (قرابة 4 آلاف دينار) إلا أنه يكشف عن حس إنساني رائع لا يمكن التقليل من شأنه.
سمعته وهو يتحدث غير مرة عما يمكن وصفه بالثوابت التي نشأ عليها والتزم بها طوال حياته العريضة، لكنه في الآن نفسه يؤمن بقراءة المتغيرات وفق هندسة دقيقة في ترتيب الأولويات وصياغتها، ورغم ما يحيطنا من ترسبات محبطة وباعثة على يأس ضمرت فيها الطموحات «الوطنية» أو كادت، كان النعيمي كريماً حقاً في منح الأمل وإشاعته لمن حوله.
صلابة الموقف والمبدأية وطغيان الشعور بنزاهة الكف والوفاء للسيرة النضالية الطويلة هي التي ستجد أفضل تجسيد لها في رفض العرض الحكومي الكريم، القاضي بتخصيص «وحدة سكنية» قدّمت بصفة الاستعجال مع خمسة وعشرين ألف دينار في مظروف فخم مزوق بشعار المملكة مصقول الأطراف وبه لمعة، ورغم «عادية» القبول وشرعيته لمن هم في ظرف أبي أمل ورفيقه المثقف الجسور والحقوقي البارز عبدالنبي العكري، علاوة على حقهما الأصيل والطبيعي كمواطنين في الحصول على السكن، لكنهما مدفوعان بالإحساس المفترض بمفهوم العدالة الاجتماعية القاضية بالتشبث بمطلب تكافؤ الفرص، والميل إلى تحويل حتى القضايا الخاصة إلى قضايا عامة رفضا العرض!، فالنعيمي يُخص بهذه الامتياز في حين تُحرم منها الكوادر الحركية في التيار الديني الوطني وهي كما كان يقول: «من شاركتنا الأحلام والمنافي والعذابات».
وظني أن العرض الكريم من الحكومة في محله ولا شك، والرفض من جانب النعيمي ورفيقه زاد من ألق الرجلين وضاعف من مشاعر الإجلال والتقدير للقريب والبعيد عنهما، المختلف والمؤتلف، وتلك صفة لا تتوافر إلا للزعامات الوطنية الفذة، والذي لديها تجرد ذاتي كبير وإخلاص عالٍ لقضيتها.
زرته في إحدى المساءات في المركز الوطني للدراسات. كانت الزيارة سريعة وكانت بغرض الاتفاق على موعد آخر وشيك سنضربه للتحدث عن تجربته السياسية العريضة، من الطفولة والنشأة إلى تخوم التجربة السياسية، إلى جبال ظفار القاسية وأودية «عدن» ومعسكراتها التي احتضنت الأحلام والطموحات الى جشوبة عيش المنافي وعبوس طقسها بكل جفافه، وهي التي لا تعترف بأصحاب الإرادات الخائرة، ولا تحسن التودد والإشفاق على أصحاب الحلول الوسط... رحلت إليه وأنا مدجج بأسلحة تحاول اختصار النعيمي الذي لا يختصر، ذهبت وفي نيتي أن أرصده عبر ثلاثين عاماً من النشاط النضالي والعمل الثوري والاجتماعات السرية والتخطيط وأحلام التغيير، والفقر والتشرد في دروب المنافي البعيدة؛ أن أمسك بتلابيب التجربة قبل أن تبهت الألوان وتبعد بنا المسافة... وجدته منهمكاً في الكتابة انهماك ناسك يعكف على طقوسه. المكان كان يضج بهدوء يتواءم بشكل خاص مع طبع النعيمي، وينسجم مع مسحة الحزن المقيم في داخله، رغم ابتسامته التي لا تفارق محياه، جنباً الى جنب مع نظارة سميكة وشارب كولونيالي أبيض ثخين مستقيم استقامة النعيمي ذاته.
ذهبت إليه ولي معرفة بأنه قد دون ما يشبه المذكرات الشخصية ونشرها عبر حلقات مسلسلة في مجلة الديمقراطي، لكني حين قلت لرفيق دربه العكري متهيباً ولوج عالمه: «ولكنه كتب تجربته؟!»، ابتسم العكري ابتسامة العارف له والمشفق عليّ، وقال بنبرة مشحونة بالثقة: «ما كتبه قليل، وبمقدورك استفزازه لقول الكثير المستتر». وهنا شددت حيازيمي للمضي إليه.. وتواعدنا ولم يحن الميعاد بعد.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 2932 - الأربعاء 15 سبتمبر 2010م الموافق 06 شوال 1431هـ
نعم الرجل النضالي انت
نعم الرجل انت يا أبا أمل، لقد كنت مثال الرجل المناضل الوطني الذي أعطى الكثير لوطنه،وهو مثال للرجل المخلص..
نشكرك استاذي العزيز على هذه المقالة الرائعة ..
نسأل الله لك الشفاء العاجل لنراك في الساحة السياسية التي افتقدتك كثيرا.
أخوك المتابع لك دوماً
للوطن أبناء وللأبناء وطن
هكذا هي البحرين ولأدة لأبناء أوفياء يعرفون الوطن وهمه ولا يعرفون شيئا آخر النعيمي هو أحدهم فرج الله عنه فقد تفانا في حب الوطن وبذل من اجل ذلك
خالد يا ابا خالد
موضوعك فجر براكين ذاكرتي عن الرجل الذي احب ان نناديه بابو امل ابنته الكبرى , التقيته للمرة الاولى في صيف عام 1977 في دمشق وعلى الرغم من ما دار بيننا من حوار ساخن حول مختلف القضايا التي كانت محط خلاف حول واقع العمل النضالي في بلادنا الا ان ذلك الحوار بنى بيننا علاقات ود واحترام ولم يتمكن الاختلاف في المواقف من صنع الخلاف.
اقول البجرين فقدت دور رجل هي في حاجة اليه في هذه المرحلة بالذات ندعو الله ان يشافيه ويعوده الينا ليمارس دوره المعهود في حب الوطن.
النعيمي الذي لايختصر!!!
صباح الخير أو مساء الخير.. فالخير فيمن فتح نافذة الحروف على افق احببناه.. هذة الأيام يبرز النعيمي بوضوح من خلال تذكرنا له في الخيام الإنتخابية.. شافاه الله وأرجعه لنا سالما.. وبأي حال فإنه عمل المستطاع لرجل نظيف بزمن ملتوي.. شكرا لمقالك الرائع الذي اثلج صدورنا.
سواد الليل
النعيمى رجل النضال والكفاح عاش من اجل الوطن والتاريخ سيخلده