« أميركا ليست في حرب مع الإسلام وستعمل على الشراكة مع العالم الإسلامي» ...الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطاب له بتركيا.
الاستراتيجية الصهيونية تجاه قوى المعارضة العربية الإسلامية (حزب الله ـ حماس) هي ذاتها استراتيجية المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، الذين تمكنوا من تطبيق مشروعهم قبل أن يرحل الرئيس بوش وطاقمه من البيت الأبيض.
في مقال لدانييل بايبس أحد قادة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة نشر في صحيفة «معاريف» الإسرائيلية في مارس/ آذار 2005، أي قبل الحرب الصهيونية على لبنان العام 2006، وبالطبع قبل المجزرة الصهيونية على قطاع غزة في ديسمبر/ كانون الأول 2008، يكشف فيه الرؤية الصهيوأميركية بشكل فاضح، وهي ذات الرؤية التي نفذت في الحربين الموجهتين أساسا للقضاء على حزب الله وحماس.
يقول هذا المحافظ النيوليبرالي إنه «لا يتعين قبول حزب الله وحماس في المنظومة الديمقراطية بسبب أهدافهما، باعتبارهما مكونات مهمة في الحركات الإسلامية التي تتطلع إلى إيجاد نظام عالمي توتاليتاري على غرار النموذج الذي نشأ في إيران والسودان وأفغانستان أيام طالبان، وهي تعتبر نفسها جزءا من الصدام العالمي بين المسلمين والغرب، حيث يعتبر هذا الصراع هو الصراع العالمي الأهم الذي سيسيطر في نهايته المنتصر على العالم».
لنتأمل الفقرة السابقة التي تشي بعقدة الخوف من الحركات الإسلامية بأن تنتصر وبالتالي تسيطر على العالم، ورغم أن الأهداف الإيديولوجية والعقائدية لمثل هذه الحركات الإسلامية هي تأسيس حكومات إسلامية، إلا أنها وقد دخلت في الحقل السياسي العام في بلدانها لذا هي مضطرة أن تتراجع عن كثير من أهدافها الايديولوجية تحت ضغط الالتزامات والتوازنات والمصالح والصراعات السياسية المحلية والإقليمية والدولية.
والمؤشرات والشواهد التي حدثت سواء في لبنان أو فلسطين تكشف مثل هذه التراجعات النسبية عندما قررت الحركتان المشاركة في اللعبة الانتخابية والدخول في المفاوضات مع باقي الأطراف المحلية والإقليمية والدولية مع بقاء ثوابت المقاومة لديهما، وهذا أمر طبيعي ضمن قناعات ومبادئ جميع المنظمات السياسية بما فيها القومية واليسارية حيث تتمايز خطابها حسب مبادئها وأهدافها الرامية إلى استمرار نهج المقاومة والممانعة مع مسار نهج المفاوضات والسلام لغاية تحقيق الأهداف، أو التي طلقت بالثلاث نهج المقاومة ووضعت كل بيوضها في سلة المفاوضات.
ضمن هذه الرؤية لهذا المسئول الأميركي المحافظ النيوليبرالي يكشف عن مخالفته الشديدة حتى للتفكير بصوت مسموع لدى الرئيس الأميركي السابق بوش ووزيرة خارجيته كونداليسا رايس، حينما صرحا في قليل من المرات بإمكانية دمج حزب الله وحماس في العمليات السياسية شرط خضوعهما لبعض التغييرات الطفيفة في أهدافهما.
ومناسبة هذا الاختلاف والهجوم لطريقة تفكير القيادات التنفيذية في البيت الأبيض، يستشهد هذا القائد الأميركي النيوليبرالي بتصريحين أحدهما للرئيس بوش الذي أشار إلى أن الأحزاب أو الأشخاص الذين يترشحون في حملة الانتخابات فيه الكثير من الإيجابيات حيث سيضطرون أن يركزوا على برامج خدماتية كإصلاح الطرق وتوفير الغذاء للمواطنين. والتصريح الآخر لوزيرة خارجية البيت الأبيض التي أشارت في سياق رؤيتها إلى مشاركة حماس في الانتخابات الفلسطينية بأن حماس مضطرة أن تركز على الدوائر الانتخابية وأن الأمر الذي يجب أن يثير اهتمام المترشحين أو المواطنين لا يتعلق بالتحريض ضد «إسرائيل» بل بمدى قدرتهم على توفير مدارس جيدة وإصلاح الطرقات وتحسين مستوى الحياة، حيث تعتقد بأن مثل هذه الحركات (الإرهابية) إذا ما بدأت تنشغل بمثل هذه القضايا الخدماتية فإن الأمور سوف تتغير تدريجيا. أي أن السماح لمثل هذه الحركات بالانخراط في العملية السياسية سوف يوصلها تدريجيا من التطرف إلى الاعتدال.
هذه النظرية ـ إن جاز التعبيرـ في عموميتها أثبتت صحتها، بل إن في جوهر العملية الديمقراطية وأسسها هي الانحياز نحو الوسطية والتوافق ومن ثم الاعتدال، وأن المزيد من الإقصاء أو الضغط لحشر مثل هذه الحركات بل وحتى الدول كإيران والسودان وسورية (محور الشر لدى المحافظين الجدد) في زوايا حادة وحصارها والإطباق عليها والتآمر لإسقاطها يؤدي إلى المزيد من التطرف وردود الفعل للقيام بخطوات مضادة وعمليات فدائية وعسكرية تصل حتى إلى نسف ناطحات السحاب باختراق الطائرات في جوفها، كما حدث في أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 بنيويورك.
إن الرؤية الاستراتيجية التي تربط النتائج بالأسباب الحقيقية وجذر الأزمات هي التي تصل إلى هذه القناعة، وجذر الصراع الراهن دوليا قد بدأ بانتشاء الولايات المتحدة الأميركية بسقوط المعسكر الاشتراكي ومن ثم بروز مقولات نهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية حيث برزت نظرية أميركية، إن في الصراع الدولي لابد أن تبحث الأطراف على عدو استراتيجي ملموس ومعروف يتم التركيز عليه، وعندها برز تيار قوي في صفوف المحافظين الجدد يرى بأن مقولات المفكرين الاقتصاديين في أوروبا والعالم النامي بأن مرحلة ما بعد سقوط المعسكر الاشتراكي هي مرحلة الصراع الاقتصادي بديلا عن الصراع العسكري والسياسي (الحرب الباردة على سبيل المثال)، وأن أدوار الأحلاف العسكرية سوف تتراجع لتبرز المنظمات الاقتصادية العالمية والمنظومات الدولية الجديدة (الاتحاد الأوروبي ـ الاقتصاديات الضخمة المنافسة لأميركا في الصين واليابان وشرق أسيا وأميركا اللاتينية وشرق أوروبا... الخ)، حيث تيقن هؤلاء المحافظون الجدد بأن دخول الولايات المتحدة في مثل هذا الصراع الاقتصادي دوليا لن يكون في صالحها ما لم يخلق عدوا ماديا للرأسمالية. الأمر الذي أعطى قوة وزخما لنظرية المرحلة الجديدة التي أصبح فيها الإسلام هو الخطر والعدو الرئيسي، وأن الصراع الدولي الراهن هو صراع بين الديمقراطية وقوى الخير ضد الإسلام الذي لا يؤمن بالتسامح والاعتدال والتعددية، وإلى آخره من مقولات طفحت على الساحة الدولية.
وفي هذا المقام من الأهمية الرجوع إلى سياسات البيت الأبيض إبان عهد الرئيس ريغان وكيف تغير الخطاب النيوليبرالي من خطاب كان يركز على الاقتصاد إلى خطاب دمج فيه الصراع الدولي الجديد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وبروز مقولات البحث عن عدو جديد للرأسمالية بديلا عن العدو الشيوعي.
في خضم هذه التفاعلات همشت النماذج المعتدلة من التجارب الإسلامية التي قبلت اللعبة السياسية كتركيا وماليزيا، بل تمت محاولات (فاشلة) في إسقاط وإفشال هذه التجارب، كحلّ الحزب الإسلامي التركي، أو الضغط الواضح الذي حدث من قبل البيت الأبيض على رئيس وزراء ماليزيا الذي أعلن في ضوئه الهجوم الفاضح على السياسات الاقتصادية الأميركية.
إذن جذر الأزمة والصراع الراهن هو أن المحافظين الجدد وبعد أن خلقوا عدوا جديدا لهم (الإسلام) ونفذوا استراتيجية تعزيز دور وخطورة هذا العدو وشنوا الحروب ومارسوا المزيد من الحصار والخنق سواء على أفغانستان أو إيران أو العراق أو سورية... الخ يطالبون هؤلاء بأن يعتدلوا ويرضخوا ويستسلموا لمبادئهم وبرامجهم وأخلاقياتهم النيوليبرالية ويقبلوا بانتصار الرأسمالية على الطريقة الأميركية فقط، بدلا من أن يستغلوا فرصة تاريخية تمثلت في سقوط معسكر اشتراكي وبالتالي مراجعة جملة من استراتيجياتهم في الشرق الأوسط ومنها دور الكيان الصهيوني الذي كان له الدور الأكبر في مرحلة الحرب الباردة في منع النموذج الاشتراكي أو الدول المنحازة للسوفيات في الشرق الأوسط بأن تهيمن وتنجح في مشاريعها.
عند هذا المفصل ينكشف تأثير اللوبي الصهيوني وانحيازه الواضح للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة لصياغة تلك النظريات التي تهدف إلى خلق عدو ملموس للأميركان والمتمثل في الإسلام، حيث إن الفرضية الأخرى البديلة المتمثلة بتحول الصراع العالمي من صراع عسكري وسياسي إلى صراع اقتصادي - لو أنها نجحت وتم الاقتناع بها - لكان أكبر المتضررين من هذا التحول هو الكيان الصهيوني الذي سينتهي دوره في هذا الصراع الدولي الجديد حيث سيبحث وسينافس كل قطب من أقطاب الرأسمالية المنتصرة سواء الأميركان أو الاتحاد الأوروبي أو روسيا (الرأسمالية) للسيطرة على الأسواق وربط اقتصاديات دول الشرق الأوسط بمصالحها واستثماراتها.
لقد تيقن للكيان الصهيوني واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا بهذا التحول الخطير المتوقع وتحالفت معه كارتلات الصناعة العسكرية التي تيقنت أيضا بتراجع أرباحها ودورها في الصراع الجديد المقبل. وتم تحويل هذه اليقينيات إلى برامج انتخابية للحزب الجمهوري الأميركي الذي أصبح الممثل الرسمي لهذا التيار النيوليبرالي العسكري الصهيوني سياسيا، وهكذا تجسدت مقولة كارل ماركس بأن السياسة هي الشكل المكثف للاقتصاد!
ولذا فإن دانييل بايبس، هذا القائد الأميركي النيوليبرالي كان واضحا وصريحا في مقاله الذي أشرنا إليه في بداية مقالنا هذا حيث أشار إلى أن «على واشنطن تغيير سياستها ومعارضة ليس فقط انضمام المنظمات الإرهابية إلى العمليات الديمقراطية، بل أيضا معارضة دمج التوتاليتاريين الذين يريدون استخدام هذه المنظومة من أجل تولي السلطة. فممنوع السماح لهم بالمشاركة في الانتخابات حتى وإن تعهد حزب الله وحماس بتغيير تكتيكاتهم، وممنوع على أميركا و(إسرائيل) والدول الغربية الأخرى القبول بهم كأحزاب سياسية شرعية».
أمام هذا الحسم والمنع المطلق والذي تم تجسيده عمليا في البيت الأبيض وفي الكيان الصهيوني وتم تنفيذ خطوات عسكرية وسياسية لإفشال أية محاولات لخلق الاعتدال في صفوف هذه الحركات الإسلامية، تماما كما حدث مع الدول التي مورست بحقها ذات الرؤية الحاسمة، حيث كان الهدف المزيد من تعزيز استراتيجية وجود عدو دائم وخطير على الرأسمالية الأميركية، ومازالت هذه الاستراتيجية ناجحة ومطبقة ومستمرة وآخرها مجازر غزة.
لذا فإن العلاقة واضحة بين السياسات النيوليبرالية الاقتصادية وبين الاستراتيجيات العسكرية والسياسية الأميركية، وقادم الشهور تتوضح السياسات التي يحاول الرئيس الأميركي الجديد تغييرها اقتصاديا وعسكريا، وما إذا كان قادرا إضعاف اللوبي الصهيوني الذي سيحاول مع كيانه الصهيوني على أرض فلسطين إبقاء استراتيجية العدو الإسلامي مستمرة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 2413 - الثلثاء 14 أبريل 2009م الموافق 18 ربيع الثاني 1430هـ