حينما تتأزم أوضاع الساحة السياسية في دولة ما أو منطقة معينة، ينبري البعض ويجتهدون في إسداء بعض النصائح التي يرون فيها شيئا من القيمة أو الفائدة في انتشال الأوضاع السيئة القائمة مما هي عليه، أو لتحاشي تدهورها إلى ما هو أسوأ منها. في الوقت ذاته، وعلى نحو مواز يتداول الناس بعض الأمثال أو الأقوال المتوارثة، التي احتفظت بها ذاكرتهم، والتي يعتقدون أنها تلقي بعض الضوء على تلك الأوضاع، مما يساعد على حل المشكلات التي قادت إلى ترديها. واليوم بتنا نسمع البعض يكرّر بعض ذلك الموروث مثل: الحاجة إلى «شعرة معاوية» أو، لم تعد هناك أية فائدة ولذلك فـ «الغاية تبرر الوسيلة».
ولكي يعرف القارئ المدلولات الحقيقية لهذه الموروثات لابد لنا من وضعها في سياقها الزمني والموضوعي، فالأولى، والتي هي شعرة معاوية، يقول نصها الكامل «إني (أي معاوية) لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا امدّوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها». لقد قال معاوية ذلك في رده على أحد الأعراب عندما سأله: «كيف حكمت أربعين عاما، ولم تحدث فتنة واحدة بالشام بينما الدنيا تغلي؟».
بعدها يعرف الجميع القصة الكاملة، فقد وضع معاوية أساس الحكم الوراثي في الدولة الإسلامية، وجاء بابنه ونصبه خليفة على العرش. لن نخوض في مدى صحة «اجتهاد» معاوية، في التأسيس لنظام الخلافة الوراثي، حيث هناك الكثير من الاجتهادات بشأنه، لكننا سنتوقف عند «الشعرة» التي حرص معاوية دوما على مدها عندما يجد هو عدم الحاجة إلى «السيف» أو«السوط».
بخلاف الاستخدام الأكثر شيوعا لها الذي يروج لدهاء معاوية وقدرته على التنقل المرن بين «اللين» و«الشدة». فهي تعبّر في جوهرها عن سياسة تقوم على قرار يلجأ إليه الحاكم بشكل ذاتي متفرد، بعيدا عن مساهمة الناس في المجتمعات البدائية، أو المؤسسات في المجتمعات المتمدنة، في معالجة الأوضاع الناشئة في ظروف معينة في نطاق زمني محدد.
هذا التفرد بالقرار المبني على تحليل ذاتي للحاكم، ربما يكون ملائما أن يعمل في المجتمعات البدائية، حيث العقد الاجتماعي، وآلية صنع القرار محدودة جدا بحكم صغر المساحة التي يشملها القرار، والتي هي في أوسع الحالات مضارب قبيلة أو تحالف مجموعة من القبائل، من جهة، وقصر الفترة الزمنية التي سوف تسري عليها القرارات المتخذة من قبيل رئيس القبيلة أوالتحالف. ومن ثم، فمتطلبات تغيير أي قرار تم اتخاذه، حتى في أعلى المستويات، تبقى سهلة، نسبيا، وأضرارها محدودة جدا على المجتمع الذي يحكمه من اتخذ القرار، أو حتى تلك القوى الخارجية التي يمسها ذلك القرار، بشكل مباشر، نتيجة لتحالفات مؤقتة تحكمها مع من إصدر القرار، أو بشكل غير مباشر، نظرا لانعكاسه سلبا أو إيجابا على المنطقة التي تقطنها نلك القوى الخارجية.
مسألة أخرى أن الكثيرين منا عند استعارتهم هذا القول، نحاول أن نروج، من خلالها، لدهاء معاوية وحنكته السياسية، منطلقين من أن معاوية حكم لمدة أربعين عاما، رغم كل حالات التمرد التي كانت تغلي بها مناطق الدولة الإسلامية التي كانت حينها في أوج شبابها. هنا يجري القفز على قضيتين أساسيتين: الأولى أن معاوية كان، وهو يعمل بقوانين «الشعرة» يستنفذ خلال تلك السنوات الأربعين، كل الزخم الذي ولدته الدولة الإسلامية الفتية حينها، والثانية أن سياسة معاوية، ساهمت، بشكل واعٍ أو غير واع، وبشكل مباشر أو غير مباشر في سقاية بذرة أو انشقاق عمودي في الدولة الإسلامية، الأمر الذي كان له انعكاسه العميق على سير وتطور الدولة الإسلامية، تمظهر خصوصا في الحقبة العباسية، ولم يختف إبان الحكم الفاطمي، وانتعش خلال الحكم العثماني، ولم يتوقف حتى يومنا هذا.
والسؤال الذي نضعه أمام من يرى في «شعرة معاوية» السلوك الصحيح للسلطة، إن هي أرادت الاستمرار في الحكم والإمساك بزمام الأمور، هو: ما هو الهدف من ذلك التنقل من اللين إلى الشدة، أو العكس، ومن يقرر ذلك، ومن يحدد توقيته؟ أي من أجل ماذا يتم الانتقال، ومن يحدد مراحل الانتقال من الشدة إلى المرونة، أو الاستنجاد بالسوط، وربما السيف عوضا عن اللسان، وفي أي المراحل من تطور المجتمع يجري تحديد الوسيلة الأكثر جدوى.
إن كان «الحكم» في حد ذاته و»البقاء أطول مدة في كرسي السلطة» هما اللذان يحددان سلوك المؤسسة الحاكمة، فما قاله معاوية ونفذه هو عين الصواب. إذ كانت غاية معاوية هو الاحتفاظ بالحكم، وضمان توارثه من قبل أبنائه من بني أمية، أما إذا كان القصد هو مشاركة الأمة في الحكم، تفقد مقولة معاوية مبررها، وتتحول إلى دعوة إلى سلوك يقترب من الانتهازية السياسية.
ربما تكون مقولة معاوية، ونشدد على عبارة «ربما» هي الأفضل عندما تقرأ في إطارها التاريخي وسياقها الجغرافي حينها، مأخوذا في الاعتبار كل الظروف المحيطة بها والمعمول بها. غير أنها بلا شك لم تعد، بأي شكل من الأشكال، ملائمة للعمل بها في الظروف المعاصرة. فالنظرة المعاصرة لإدارة دفة الحكم اليوم، ترفض الشدة والتي في مفهومنا المعاصر هي القمع بعينه، مهما حاولنا تغليفه، أو إخفاء مظاهره. وعوضا عن ذلك تدعو هذه النظرة إلى لجوء السلطة إلى بناء أو تشجيع تأسيس مؤسسات المجتمع المدني التي يكون دورها الأساسي، فتح المجال أمام مشاركة المواطن في الحكم، ومساهمة مؤسساته في صنع القرار، وكل ذلك يتم عبر قنوات مؤسسية ناضجة ترفض إيصال المجتمع إلى درجة من التوتر تؤدي إلى اشتداد «الشعرة» بدلا من «إرخائها».
المبدأ ذاته ينطبق على المعارضة المعاصرة المتمدنة، التي ينبغي أن تتحاشى، قدر الإمكان التصعيد غير المبرر، الذي يقود، بوعي أو بدون وعي، إلى إنضاج الأوضاع التي تشجع السلطة على اللجوء إلى «السوط» أو «السيف».
النظرة المعاصرة البناءة، الهادفة إلى تأسيس مجتمع مدني تتعايش فيه السلطة والمعارضة جنبا إلى جنب وعلى حد سواء، وتؤدي كل واحدة منها وظائفها من حقوق وواجبات على النحو الأفضل في نطاق القوانين والأنظمة، ووفق مقاييس شفافة، تقوم على «الوسطية» في سلوك الجهتين: السلطة والمعارضة، فليس هناك ما يبرر إلى أن تصل «الشعرة» إلى الانشداد إلى درجة يلجأ الطرفان فيها إلى لغة «السوط» أو «السيف»، بدلا من مفردات «الحوار» و»التشاور».
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2413 - الثلثاء 14 أبريل 2009م الموافق 18 ربيع الثاني 1430هـ