تراجع القس المهووس تيري جونز عن خطوته الشيطانية بإحراق نسخ من القرآن الكريم تحتاج إلى قراءة لمعرفة الأسباب التي دفعته لتغيير قراره من دون مقدمات وشروط.
هناك الكثير من العوامل التي ضغطت على هذا القس المعزول حتى عن أقرب الناس إليه. ماضي رئيس كنيسة في بلدة في ولاية فلوريدا غير مشرف ونزيه وسجله يحتوي على فضائح تؤكد انحرافه عن الآداب العامة والسلوك السوي. وهذا ما دفع بعض أقرب الناس إليه إلى كشف جنونه وطموحه الاعتباطي لكسب الشهرة ونيل الجاه.
هذا العامل الشخصي لعب دوره في تطويق الخطوة وعزلها عن بيئتها الثقافية ومحيطها الخاص في إطار الدائرة الضيقة التي يتحرك فيها. إلا أن هناك عوامل أخرى ساهمت في كسر ذراعه وتفريغ خطوته من كل التعاطف الذي توقع أن يحظى به.
أهم تلك العوامل حصول هبة دولية مستنكرة من كل المراجع الدينية والهيئات المدنية والحكومات الرسمية معتبرة أن الإعلان خطوة استفزازية تثير الاشمئزاز والكراهية لأنها أولاً ضد كتاب ولأنها ثانياً موجهة ضد دين.
فكرة حرق كتاب لم تلقَ التجاوب حتى من المؤسسات التي تشرف أحياناً على تغذية التيارات المعادية للإسلام والمسلمين لأنها تعتبر في العرف الإنساني حركة بهلوانية ارتدادية تذكر الشعوب بسياسات اعتمدتها بعض أنظمة الجهل والاستبداد حين خاضت معارك فاشلة ضد كتب لا تتناسب مع توجهاتها الإيديولوجية. فالحرق فكرة مأخوذة أيضاً من القرون الوسطى حين كان قادة الجيوش يقتحمون المكتبات ويفرغون رفوفها ويكدسون محتوياتها في الساحات ويشعلون النار بأوراقها في حلقات رقص ومجون.
الفكرة أصلاً لا تشكل تحدياً للإسلام والمسلمين فقط وإنما هي موجهة ضد ثقافة الغرب أيضاً. وهي لو حصلت لكانت تمثل ضربة موجعة لكل ما أنجزته الإنسانية من قيم حضارية ترفع من قيمة الكلمة بوصفها بدء الخليقة ولا يمكن تجاوزها أو تعطيلها في أمة «اقرأ».
فكرة الحرق منحطة في جوهرها وهي لو حصلت لكان بالإمكان أن تتحول إلى عنوان كبير يسخر من كل فضاءات الكلام الفضفاض عن «الديمقراطية» وغيرها من مصطلحات تتصل بالرأي والحرية وحق الاختلاف ومقاومة الكلمة بالكلمة.
بناءً على هذه القاعدة يمكن القول إن الطرف الذي منع القس من تنفيذ إعلانه كان نتاج حصول إجماع دولي لا نظير له ضد الخطوة. وبهذا المعنى الرمزي اكتسب الإسلام قوة زخم معنوي لم تحصل لمصلحة المسلمين منذ عقود. والتعاطف العالمي مع كتاب المسلمين شكل للمرة الأولى منذ حملات جورج بوش الحاقدة على العالم الإسلامي، بذريعة الرد على هجمات 11 سبتمبر 2001، خطوة اعتذارية عن مرحلة رمادية كان لابد من ختامها إما بحرق الكتاب أو بمنع القس المنحرف من ارتكاب فعلته.
منع الخطوة يمكن اعتباره إشارة جيدة باتجاه يعيد النظر في سلسلة توجهات كان لها دورها في حفر خنادق حروب حضارات وثقافات. وكان كما يبدو من ضرورة وجود خاتمة لهذه المرحلة إما بالتصعيد باتجاه دفع العجلة نحو التصادم وإما بالتراجع باتجاه إدارة البوصلة نحو سياق آخر قد يتوّج لاحقاً بعقد هدنة تمهد الطريق نحو مصالحة تاريخية.
الإجماع الدولي ضد الخطوة سواء كان عفوياً أو مدروساً أو خوفاً يشكل في إطاره العام نواة صلبة يمكن البناء عليها في المستقبل لتصحيح مسار شهد تقلبات سيئة منذ العام 2001. وهذا المسار التصعيدي (التقويضي) الذي تعطل بعد وصول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض كان أيضاً يحتاج إلى موقف صريح وواضح وشجاع ليضع حداً لمهزلة العداء للإسلام أو ما يسمى بالإسلام فوبيا الذي درج بعض الموتورين النفخ به لأهداف غير ظاهرة ومقنعة.
موقف أوباما في موضوع الحرق، حين وصفه بأنه يتعارض مع احترام قيم التنوع في النموذج الأميركي، اتسم بالنزاهة لأنه شكل نقطة وازنة رجحت اتجاه التكاتف والتعاضد لمنع خطوة القس المارقة. وبسبب شجاعة أوباما وعدم تردده أو خوفه من تلك الحملات الموجهة ضده شخصياً التي تتهمه بمحاباة المسلمين وتشكك بأصوله الأميركية، استطاعت الإدارة أن تشكل قوة ضاغطة أوصلت رسالة واضحة وقاسية بشأن موقفها الرافض لهذا العمل الاستفزازي.
نجحت إدارة أوباما في وضع الخطوة تحت عنوان «الأمن» والمخاطر التي يمكن أن تتأتى منها على القوات الأميركية في أفغانستان، ما أعطى فرصة لتدخل وزارة الدفاع في المسألة باعتبارها تهدد الأمن القومي والمصالح الأميركية العليا. ونجح العنوان المذكور في نزع الموضوع من إطاره الداخلي (قانون الولاية والشرطة الفيدرالية) وتحويله إلى مذكرة حربية تورط أميركا في مواجهات خارجية تتحمل مسئولية تداعياتها البنتاغون (وزارة الدفاع).
خطبة أوباما الشجاعة في مناسبة ذكرى هجمات سبتمبر كانت واضحة في التمييز بين الدين والسياسة وعدم الخلط بين الإسلام ومنظمات تدعي الانتماء إليه. والأهم من هذا الكلام العام كان إصرار أوباما الواضح على عدم استعداده للانجرار نحو مناكفات داخلية تعيد إنتاج إيديولوجية الحرب ضد الإسلام.
عدم خوف أوباما من انعكاسات موقفه الرافض لخطوة القس على نتائج انتخابات الكونغرس في نوفمبر/ تشرين الثاني سمح له باتخاذ منهج مضاد ساهم في بلورة جبهة قوية ومتراصة في البيت الأبيض أدت إلى إطلاق تيار أميركي أجمعَ - باستثناء فئة شاذة - في مختلف أطرافه وأطيافه على إدانة فكرة الحرق وعدم التردد في الجهر بمنعها.
الموقف الأميركي المعطوف على التعاطف الدولي مع كتاب المسلمين تعزز من خلال تلك المناشدات التي صدرت من مختلف العواصم الأوروبية واللاتينية والإفريقية والآسيوية والعربية والإسلامية التي توحدت على استنكار تلك الخطوة الجهنمية.
الإسلام في هذا المعنى البعيد كسب المعركة وإدارة أوباما لم تخسر حربها ضد بقايا تيار متعصب (حزب الشاي مثلاً) خرج من البيت الأبيض ولكنه لايزال يتحرك ويضغط من خلال مؤسسات المال والطاقة والتصنيع الحربي لمنع التوصل إلى هدنة تاريخية تمهد الطريق للاعتذار المتبادل والمصالحة بين الغرب والعالم الإسلامي.
خطوة أوباما نزيهة وشجاعة. وتضامن العالم مع كتاب المسلمين إشارة لابد من الانتباه إلى أبعادها الرمزية. وتعاطف كل القوى المتنوعة في ثقافاتها وألوانها وأديانها مع الإسلام وضد خطوة الحرق، تشكل في مجموعها حركة انعطافية في مسار قام على فكرة الكراهية والعداء و«الحرب الدائمة».
هذا الأمر لابد أن يترك أثره ويشجع القوى المسلمة بالرد الإيجابي وإعادة قراءة ما حصل بروية ورؤية عامة لاستخلاص العبر والخروج باستنتاجات هادئة وغير متسرعة في تقدير المواقف وتحليل دوافعها وعواملها. ما حصل ليس بسيطاً سواء حين أعلن القس عن قراره الشيطاني أو حين تراجع عن خطوته من دون مقدمات وشروط. المسألة بحاجة إلى إعادة قراءة لمعرفة الأسباب من دون أوهام أو مبالغات أو ادعاءات. وبغض النظر عن الخلاصات العامة والمشتركة فإن الخطوة التراجعية ربما لا تكون بداية اعتذار أو مصالحة ولكنها على الأقل دعوة إلى هدنة تاريخية تكسر من جانب محرمات أميركية وربما تفتح من جانب آخر الباب نحو التعامل مع خطاب رسمي يتبناه الرئيس شخصياً من دون أن يكون بالضرورة يمثل رأي المؤسسات والقوى المتطرفة والعنصرية وتوجهاتها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2929 - الأحد 12 سبتمبر 2010م الموافق 03 شوال 1431هـ
خطوة أوباما الشجاعة
خطبة أوباما الشجاعة كانت واضحة في التمييز بين الدين والسياسة وعدم الخلط بين الإسلام ومنظمات تدعي الانتماء إليه. والأهم من هذا الكلام العام كان إصرار أوباما الواضح على عدم استعداده للانجرار نحو مناكفات داخلية تعيد إنتاج إيديولوجية الحرب ضد الإسلام. وهذا المسار التصعيدي (التقويضي) الذي تعطل بعد وصول الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض كان أيضاً يحتاج إلى موقف صريح وواضح وشجاع ليضع حداً لمهزلة العداء للإسلام أو ما يسمى بالإسلام فوبيا الذي درج بعض الموتورين النفخ به لأهداف غير ظاهرة ومقنعة.