العدد 2927 - الجمعة 10 سبتمبر 2010م الموافق 01 شوال 1431هـ

السياسيون العراقيون بين «مِلْح» الهولنديين و«سُكّر» البجليكيين

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يُسلِّيْ العراقيون أنفسهم بضُروبٍ من الأمثال. اليوم يتهامس السياسيون من أحزابهم بأن الهولنديين (وهُم أصحاب دولة عظمى) عاجزون ومنذ ثلاثة أشهر عن تشكيل حكومة ائتلافية رغم انتهاء الانتخابات ومعرفة كلّ فصيل بحصّته، إذاً فما يعيبنا إن تأخّرنا أو تلكَّأنا أو تعذّرنا في أن نُشكّل حكومة ائتلافية؟!

ويقولون أيضاً: إذا كان البلجيكيون (وهم أصحاب دولة مُبَرَّزَة واقتصاد متين) عاجزين عن تشكيل حكومة مماثلة منذ ثلاثة أشهر أيضاً ورغم انتهاء العملية الانتخابية وفرز الرابحين عن الخاسرين، فأيّ لومٍ يقع علينا ونحن قوم بالكاد قد استبدلنا نظاماً شمولياً دكتاتورياً دموياً ونسير في بناء الدولة المدنية الحديثة.

بالتأكيد، فإن هذا الحديث يُقال من قِبَل بعض السياسيين العراقيين إرضاءً للضمير، وتسلية للعاجزين منهم داخل الأحزاب الحاكِمة. فإذا كانت النماذج وتجارب الدول ينتابها النجاح والفشل فمن الخطأ أن نستعير الفشل والنكوص منها ونترك نجاحاتها. لأن الصحيح هو العَتَب على عدم استلهام النجاح والاتّكاء على نموذج الخطأ.

بالرجوع إلى النموذجين الأوروبيين (الهولندي/ البلجيكي) يُمكنني مناقشة الأمر جيداً وحسب مسار الأحداث دون تجيير. القصة في هولندا هي أن انتخابات تشريعية جَرَت في التاسع من يونيو/ حزيران الماضي أفضت لأن يقوم حزب الحرية اليميني والحزب الليبرالي والحزب المسيحي الديمقراطي بتشكيل الحكومة باعتبارهم أقوى الفائزين.

النتائج البرلمانية كانت كالتالي: 31 مقعداً للحزب الليبرالي. 30 مقعداً للحزب الديمقراطي. 24 مقعداً لحزب الحرية اليميني بزعامة المتطرف خيْرْتْ فيلدرز بأربعة وعشرين مقعداً. الخلاف الذي حصل بينهم هو حول موقف الأحزاب التقليدية من توجّهات اليمين المتطرف المعادية للإسلام وللمهاجرين، والتي تُعتبر مخالفة للدستور الهولندي والأوروبي.

في بلجيكا القضية مختلفة. فهذا البلد مشطور إلى قسمين. الأول فلاماني وقريب من الحدود مع هولندا ويتحدث لغتها، وهم يُشكّلون 58 في المئة من السّكان. وقسم والوني فرانكفوني قريب من الحدود مع فرنسا، ويتحدث لغتها، وهم يُشكّلون 40 في المئة من سكان بلجيكا، بالإضافة إلى جزء ثالث أصغر قريب من ألمانيا ويتحدّث لغتها أيضاً.

جرت الانتخابات في 13 يونيو الماضي وفاز التحالف الفلامنكي في مناطق نفوذه، وفاز الوالونيون الفرانكفونيون في مناطق نفوذهم الثقافي واللغوي. الخلاف بينهما جرى حول إعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها ومنح المقاطعات مزيداً من الاستقلال والصلاحيات كما يطالب الفلامانيون، وبين زيادة المساعدات لمدينة بروكسل والتخلي عن بعض الحقوق اللغوية الخاصة بمنطقة فلاندرز، كما يطالب بذلك الوالونيون الفرانكوفونيون.

هذه باختصار قصّة النموذجيْن الأوربيين في شأن انتخاباتهما وخلافاتهما. القضية التي يجب أن يعيها العراقيون في تمثّلهم بهذيْن النموذجين لتبرير تأخير تشكيلهم الحكومة، هو أن هولندا ومنذ العام 1945 كانت عملية تشكيل الحكومات الائتلافية فيها تستغرق تسعين يوماً في متوسطها، وبالتالي أصبح ذلك جزءاً من عرفها الديمقراطي «غير المأزوم» وبرعاية من العرش.

وفي بلجيكا فإن الملك ألبير الثاني يُدير دفّة الأمور بشكل دستوري فخري ووفق منتظم تاريخي مضى عليه الآن ستة عهود من ممالك هذه الأسرة. وقد عيّن الملك قبل أيام رئيسي مجلسي النواب (الاشتراكي الفرانكوفوني أندريه فلاهو) والشيوخ (الفلمنكي داني بيترس) كوسيطين لإعادة إطلاق المفاوضات الرامية إلى تشكيل الحكومة.

في النموذج الأول لم يُؤدِّ خلاف الهولنديين مع بعضهم البعض وتأخّرهم في تشكيل الحكومة إلى رضوض في علاقات الطوائف بعضها ببعض، ولا إلى اغتيالات سياسية واعتقالات مُبرمَجة كما هو الحال في بغداد، ولا إلى وجود جثث مجهولة الهوية في أنهار الراين والماس والشيلد والفال كما يحدث في نهري دجلة والفرات، ولا إلى سرقة لوحات فان غوخ ورامبرات كما جرى للمتاحف العراقية، ولا إلى تلف أزهار التوليب، ولا اهتزاز في اتفاق ماسترخت.

وفي النموذج الثاني، لم يؤدِّ خلاف البلجيكيين مع بعضهم البعض وتأخّرهم في تشكيل الحكومة إلى التأثير على سياستهم الخارجية التي تُديرها الحكومة الاتحادية، ولا إلى زعزعة أمنية يفقد الناس فيها حياتهم كما هو الحال في الموصل وبغداد، ولا إلى تخلّف بلجيكا عن ركب الدول الصناعية المهمّة، ولا إلى فساد أجهزتها الحكومية كما هو الحال في مؤسسات الدولة العراقية، وإلى ترهّل تجاري في وادي السامبر، كما يجري محاصيل العراق ومنتوجه.

كما لم تلجأ المقاطعات الناطقة بالهولندية في الأراضي البلجيكية إلى هولندا بحجّة التماهي اللغوي أو الثقافي أو الإثني، ولم تستنجد المقاطعات الناطقة بالفرنسية فيها بباريس، ولا الألمانية ببرلين، بعكس ما يجري في العراق، حيث يلجأ الشيعة إلى إيران، والسّنة بالمحيط العربي، والتركمان بتركيا، بل وحتى لجوء الطرق الصوفية فيه إلى هنا وهناك.

كما أن الخلاف القائم في امستردام وبروكسل هو خلاف على مصلحة عامة، حفظتها الممارسة اليومية التاريخية للحقوق والواجبات. أما خلاف الإخوة في العراق فهو خلاف غائر في الطائفية والنفوذ، وأن مسألة تشكيل الحكومة بالنسبة إليهم، هي أن يُضخّموا عدد الوزارات مرّتين، وإلى أن يتقاسموا ثكنات الجنود وعدد الضبّاط، ونفوذ المؤسسات، وكيفية صرف المخصصات، وتقييم الأحزاب لعلاقات البلد الإقليمية والدولية وليس مؤسسة الخارجية وكأن البلد أصبح «عزبة».

قصارى القول هو أن ما بين العراق وبين كلّ من هذين البلدين الأوروبيين هو في «كلّ» وليس في «جزء». بل إن هذا الجزء الذي قد يُسلّي به بعض السياسيين العراقيين أنفسهم هو ليس كما يعتقدون لأنه جدّ مختلف، وعليهم بدل استذواق هذين «الأبيضين» سواء من هولندا وبلجيكا أن يقدموا تنازلات «مريرة» في أسعارهم من أجل بيع هذه البضاعة المتكدّسة حتى أكتافهم والتي ستفسد إذا لم يُسارعوا في تصريفها

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2927 - الجمعة 10 سبتمبر 2010م الموافق 01 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً