العدد 2927 - الجمعة 10 سبتمبر 2010م الموافق 01 شوال 1431هـ

الخائفون من الإبداع

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

سمعتُ يوماً أحد مدربي التنمية الذاتية وهو يوضّح للمستمعين الفرق بين النخلة والسدرة. فالنخلة ترمي بَلَحَها بعيداً عن ظلّها، وبعد أن تذوب البلحة بفعل الطقس، تغوص نواتها في الرمل لتنبت وتورق وتصبح نخلة جديدة. أما السدرة، فإنها ترمي بثمرها (النبق) تحتها مباشرة، حيث تمتد أغصانها في كل اتجاه لتغطي الثمر المتساقط الذي يبقى في الظل ثم يموت ولا ينبت شيئاً، لأنه يفتقر إلى الشمس والضوء.

وعلى أساس ذلك التصنيف يتوزّع الناس بين النخلة والسدرة، فهناك من يرتع في الظل طوال حياته، وإن صادف وحالفه الحظ وانغرس في الرمل ثم نبت، فإنه لا يستطيع أن ينتج ثماراً ويفيد المزرعة التي ينبت فيها. وهناك من يهرب من الظل كما تهرب النواة من نخلتها، ليشبع بدنه بأشعة الشمس، التي تكون حارقة أحياناً، ثم ينطلق ليمخر عباب الحياة ويكتشف عوالم جديدة. هؤلاء فقط هم الذين نتذكّرهم بعد رحيلهم، وهم الذين نروي قصصهم لأطفالنا قبل النوم، وهم الذين تَرِدُ أسماؤهم في كتب المدرسة تحت عنوان «عظماء من التاريخ».

إن الذين يقضون حياتهم تحت ظل السدرة هم كثر، يُعرفون بسيماهم، ولكنّهم لا يتميّزون عن غيرهم من عامة الناس. هؤلاء هم الخائفون من الإبداع، فالإبداع بالنسبة إليهم مشتقّ من «البِدعة» ولذلك تجدهم يحاربونه بلا منطق أو حجة، ويدعون تلك الحرب «جهاداً». الخائفون من الإبداع لا يؤمنون بتطور الحياة، ويرمون بالإلحاد كل من تسوّل له نفسه ذِكْر كلمة «تطوّر»، لأنهم يشتقّونها من نظرية «داروِن» الخرافية حول تطور الإنسان. إن الخائفين من أنفسهم هم أولئك الذين يعملون في المؤسسات دون أن تكون على مكاتبهم شاشات كمبيوتر، وإن وُجدت، فإنها غالباً ما تكون للزينة فقط. وإذا اتصلت بأحدهم وطلبت منه شيئاً، فإن رده غالباً سيكون بأن الموضوع ليس من اختصاصه، وعليك أن تراجع القسم المختص، الذي يبعد عنه أمتاراً قليلة. هؤلاء، لا يؤمنون بالبريد الإلكتروني، فهو للتسلية فقط، ومازالوا يستعيضون عنه بالبريد المختوم، والرسائل التي يستهلّونها بديباجة نمطية، تلك الرسائل التي أسمّيها «من جنابنا إلى جنابكم»، وكلّما طلبت منهم شيئاً يقولون لك: «ارسل لنا رسالة رسمية»، تُحاجِجُهُم بالبريد الإلكتروني، فيتنطّعون بحجة افتقاره للصفة «الرسمية» أو «القانونية».

الخائفون من الإبداع يخشون أن يقتحم عليهم الإبداع كسلهم، وينتهك دَعَتهم، لأنهم لا يفهمون لغته، ولا يستطيعون مجاراته، ولأنه فقط، من يستطيع أن يكشف الأقنعة الزائفة المعلقة على وجوههم. إنهم كالواقف فوق جبل، يرى الناس صغاراً، ويرونه صغيراً.

الخائفون من الإبداع قد يبنون مدناً، ولكنهم لا يستطيعون أن يبنوا حضارة. تبدو مدنهم تلك كأوراق الشجرة، يبهت لونها بعد مدة، ثم تذبل وتسقط، لتنبت مكانها أوراق جديدة، أما الحضارة فهي الشجرة التي تظل شامخة عبر الزمان، لتشهد النمو والسقوط. في مدنهم تلك، تنهال الكآبة من كل مكان على سكّانها حتى تُطْبِق عليهم.

الخائفون من الإبداع يشبهون الشيوعيين الأوائل، الذين ألغوا الفردية واستبدلوها بالاشتراكية. اعتقد أولئك أن الاشتراكية ضرورة حتمية، ولابد للمجتمعات من خوضها، ووعدوا الناس بالمساواة في توزيع الثروات، وفي الحقوق والواجبات، وعندما تمكّنوا من السلطة، نقضوا ما عاهدوا الناس عليه، وتحولت اشتراكيتهم إلى عبودية. عندما يذوب الفرد في المجتمع، فإنه يذيب معه كل فرصة للإبداع والتميّز، ويصبح الجميع قطيعاً واحداً، يحرثون الأرض كل يوم، ليزداد الفقراء فقراً، والأغنياء غنىً.

يعرّف إدوارد ديبونو الإبداع بقوله: «هو الهروب من أنماط الحياة المتعارف عليها، حتى نتمكن من رؤية الأشياء بصورة مختلفة». حقاً، هو الهروب أولاً وقبل كل شيء، وبمعنى آخر، هو المغامرة، ولكي تكون مغامراً فعليك أن تفرّ من البيت. يهرب المبدع من البيوت المظلمة، لا ليبحث عن النور، ولكن ليصنعه بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، وذلك أضعف الإبداع.

إن الإبداع يمنح الأمل، ويقوّي الإرادة، ويحمل الإنسان إلى خارج نطاق المعقول، إلى المريخ والمشتري. الإبداع مذهب وجودي، وسنّة كونية، من حاد عنها خرج من النور إلى الظلمات. يشتق المبدعون كلمة «إبداع» من «البديع» وهي إحدى أسماء الله الحسنى، ويعتقدون بالحديث الذي يقول: «من سنّ سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها...».

المبدع ومْضَةٌ من نور، وضياء يمتد على أفق الكون، ليحرر الأفكار، ويمحق الظلام. ذلك النور الأبدي، يبقى مكانه حتى بعد رحيل صاحبه، تماماً مثل النجوم التي ما زالت أشعتها تصلنا إلى اليوم، على الرغم من رحيلها قبل آلاف السنين. المبدع لونٌ لا يبهت، يصطبغ به كل ما يدور في فلكه الشاسع الرحب، تزيده الشمس نضجاً، ويكاد يضيء في عتمة الظلام، حتى ولو لم تمسسه نار.

المبدع مرحلة تاريخية، تختلج فيها كل إرهاصات الزمن، وتتزاحم بين سنواتها الفلكية، أرجل الذين يهرولون ناحية المستقبل، دون أن تطأ أقدامهم الأرض. ابحث في تاريخ الطبري، وفي معجم البلدان، وانظر في الإمتاع والمؤانسة، وفي قصة الحضارة، وستجد تلك المرحلة الملوّنة، تكرر نفسها عبر الصفحات، وتسعى لتحقيق نفس الغاية، وإن اختلفت الوسيلة. الخائفون من الإبداع كالإبل المئة، لا تكاد تجد فيهم راحلة، والمبدعون كالرواحل المئة، لا تكاد تجد فيهم أُبَيْلَة، وإن وُجِدَت فلا يجب أن تبقى بينهم، فالسمكة الفاسدة تفسد السمك كلّه

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 2927 - الجمعة 10 سبتمبر 2010م الموافق 01 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:45 ص

      السلام عليكم ،
      حقيقه قرأت كتاب بيكاسو و ستار بكس للمتألق الاستاذ ياسر حارب و تتطرق الي الإبداع ، كان طرحه غايه في الجمال و لقد شحن الهمه و عزز الايجابيه لي شخصياً فا شكراً له من الأعماق .

    • زائر 3 | 7:05 ص

      سلمت يمناك

      وأنا أقرأ مقالتك جالت بفكري شخصية سلمان الفارسي الذي هرب من واقعه الملحد وهو ابن أحد الملوك ليبحث عن الإيمان والعبودية لله.. تعرض سلمان الفارسي للرق عشر مرات ولم يزعزع ذلك من إيمانه وإخلاصه قيد أنملة.. وعندما تولى منصب الولاية في احدى مدن العراق كان لباسه الخشن البسيط.. فهل منا الآن من يهرب من واقع التناقض والمظاهر في الحياة ليعود إلى إيمانه الحقيقي الذي هو أساس كل الإبداع؟؟؟

    • زائر 2 | 4:36 ص

      شكرا للوسط

      شكرا للوسط لنشر اعمدة المتألق ياسر حارب و هذا سيكون اثراء كبير للوسط بطرحها لمقالات حارب .. بالرغم اني قرأت هذا المقال سابقا و احببته لكن هذا لا يمنع ان هتاللك الكثير من لم يقرأه و اتمنى انها تتحفنا بمثل نوعية هالكتاب
      شذى الوادي

    • زائر 1 | 11:27 م

      هل يسمح للشعوب بالابداع ؟

      جل سبحانه و تعالى (بديع السموات والاض) الذي خلقهن من غير مثال قبلهن ولا بعدهن جلت قدرته في كل شىء فهل من مفكر في ابداعه حتى نكون مبدعين في ارضه وسمائه؟ لكن هل يسمح لنا ذلك ؟ كما الشعوب والامم المبدعة ؟
      لو كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء. وشكرا للكاتب المبدع حقا ،كلما اقرأ موضوعه فكر يتجدد .

اقرأ ايضاً