المبادرة الملكية الأخيرة للإفراج عن المعتقلين والمحكومين أحدثت انفراجة واسعة في الشارع، كما تشهد به الأجواء الاحتفالية التي عمّت المناطق التي كانت قبل أيام مسرحا للاحتكاكات الأمنية والمصادمات.
المبادرة أشاعت أجواء إيجابية من التفاؤل، وفتحت كوّة في الجدار السميك الذي اصطدمت به الدعوات المتتالية لتفعيل لغة الحوار.
الجدار المسدود لم يقم خلال يومين، وإنما جرى رفعه على مدى سنوات، ليصبح عائقا كبيرا يحول دون تلاقي وجهات النظر المختلفة، ما أسهم كثيرا في تراجع الثقة بين الأطراف المعنية بالشأن العام.
تآكل الثقة كان فرصة ذهبية لبعض الأطراف لتعزيز مواقعها وزيادة حظوتها، فعملت بجهدٍ واجتهاد من أجل تكريس حالة القطيعة، باستغلال بعض المنابر هنا وهناك. وهكذا شهدنا على مدى السنوات الأخيرة صعود تيار يبشّر بثقافة الكانتونات، واستعداء مكونات المجتمع ضد بعضها بعضا، وارتفاع النبرة الطائفية... حتى شاع التشكيك في الولاء الوطني، واتهام الناس في مواقفها وآرائها وانتماءاتها على خلفية سياسية بحتة.
كان الطريق خاطئا وكارثيا من البداية، ولكننا سرنا فيه، حتى وصل الإسفاف إلى اتهام بعضنا بأبناء الحرام، دون تأثّم أو تحرّج. وهكذا كان هناك خطابٌ إعلامي يذهب لتحبيذ وتزيين لغة الصدام، والإغراء به والتهوين من تبعاته. بل وصل أحيانا إلى استعداء الدولة بشكلٍ مكشوفٍ على الفئات التي تعبّر عن مطالبها بالاحتجاج. وآخر هذه الخطابات تعيير الدولة بأنها ليست دولة إذا لم تسجن مشيمع أو تؤدّب المقداد. هذا الخطاب التحريضي المتشنّج المفلس، أصبح خارج السياق مع تدشين هذه المرحلة الجديدة من الانفتاح.
في المقابل كان هناك خطابٌ يحاول موازنة الأمور، عينه الأولى على حفظ هيبة الدولة وحرمة المال العام، وعينه الأخرى على حقوق الإنسان وحفظ أرواح الناس جميعا. وهكذا استمر في الأوقات الحرجة يدعو إلى الحوار دون كلل أو ملل، فالحياة لا تستمر باستقواء بعضنا ضد بعض، والاستقرار لا تضمنه الحلول الأمنية وحدها، في بلدٍ قائمٍ على توازنات مذهبية دقيقة، ومحيطٍ إقليمي يولّد مشكلات وأزمات متتابعة.
المبادرة أشاعت أجواء إيجابية كبيرة، والخطوة المأمولة التالية أن تأخذ مداها لتفعيل لغة الحوار، لوضع عوامل الاحتقان على الطاولة. فالطبيب لا يكتفي بتشخيص أعراض الحساسية وإنما يبحث عن مسبّباتها ويعالج جذورها، لكي لا تتجدّد نوبات المرض.
اليوم عندما نقرأ تصريحات القيادات الرسمية والشعبية، نرى إجماعا على نبذ العنف، مع التسليم بضرورة الحوار. وما وصلنا إليه يستحثنا جميعا لإيجاد حلول للمشكلات العالقة، وأكثرها يتعلق بحياة المواطن وهمومه اليومية، من سكن وتعليم وصحة وتدهور المستوى المعيشي، لأسباب من بينها الأزمة المالية العالمية، وبدء التأثيرات الارتدادية لسياسة التجنيس التي تضغط على أعصاب المواطن.
البلد كان بحاجةٍ إلى مثل هذه المبادرة الطيّبة ليتنفس و»يرتاح» كما قال الشيخ علي سلمان، فالسياسي هو من ينزع فتائل الأزمة لا من يزيدها اشتعالا. والسياسي هو الذي يشيع الطمأنينة وقيم التسامح وجبر الخواطر وتهدئة النفوس. وما حدث مبادرةٌ طيبةٌ كانت تنتظرها البلد بفارغ الصبر للخروج من تحت الدخان الخانق، وهي ليست انتصارا لأحد، ولا هزيمة لأحد، وإنما هي انتصارٌ كبيرٌ للوطن.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2412 - الإثنين 13 أبريل 2009م الموافق 17 ربيع الثاني 1430هـ