ها هي الأسر الإماراتية بوجه عام، والأسرة الرمساوية على وجه الخصوص... تتأهب بكل ما أوتيت من بهجة وكرم استعداداً لاستقبال الليلة الشعبانية الحاسمة (14 ليلة النصف من شعبان) من كل عام، كمدخل روحاني وإيماني إلى شهر رمضان المبارك... ففيما الآباء يتجهون بنقودهم إلى الأسواق لشراء ما يليق بتلك الليلة المباركة ويشير إليها من مكسرات وحلويات (يوز «جوز» وبيدام «لوز» ونخي «حمص جاف» وسبال مملح «فول سوداني» وبرميت «حلاوة صلبة» وإلخ...)، تهرع الأمهات إلى سرج (الخرايط) أو الأكياس القطنية لتسليمها للأطفال للتطواف بها على بيوت الجيران في الفريج أو الحي الذي يسكنون به وربما يتعدى ذلك إلى الفرجان أو الأحياء الأخرى من منطقة الرمس برأس خيمة الإمارات العربية المتحدة... لأخذ حصتهم من محصول تلك الليلة، حيث تسمى تلك الحصيلة (حق الليلة) أي حق ليلة النصف من شعبان، أو حق الله.. وهناك، في تلك الليلة، يردد الأطفال أهازيجهم وأناشيده التراثية:
«عطونا، حق الله ..
بنذبح لكم عبدالله ..
عطونا حق الليلة،
بنذبح لكم عييله .. »
فإذا كان أهل البيت ممن يتصفون بالكرم والاحتفاء بالطفولة ويحيطونهم الأطفال بالحب، أنشد الأطفال ما يسر أهل البيت:
«جدّام بيتكم وادي،
والخير كله ينادي..»
أما إذا كانوا ممن يصدون الأطفال ويكسرون خاطرهم، دافع الأطفال عن ماء وجههم بإنشادهم الغاضب:
«جدّام بيتكم طاسه ،
وويوهكم محتاسه..»
وإذن .. من تلك الليلة الشعبانية الكريمة، تنطلق الأسر إلى شهر رمضان المبارك بقلوب ممتلئة بالإيمان وبأرواح معلقة بفعاليات الكرم والجود..
ها نحن ندخل إلى المربع الأول، إلى المرابع البيضاء، إلى الرائحة الرمضانية القديمة قدم البراءة والبراعة الاجتماعية السامية.. فمنذ اللحظة الإعلانية الأولى لتأكيد قدوم شهر رمضان ضيفاً عزيزاً على قلوب الناس برجالاتهم ونسائهم وأطفالهم، تبدأ مسيرتنا نحن أطفال ذاك الزمان الرمضاني القديم، وتبدأ حكايتنا التي تتكئ على طمأنينة التجوال بين سكيك «الرمس» بكل حرية مكفولة باللاخوف من شياطين الجن أو عتمة الحياة.. ففي تلك اللحظة المنتظرة على أحر من الجمر، نبدأ حكاية رمضانية سنوية مقدسة...
يأتي الخبر عبر مدفع رمضان، وعبر أجهزة الراديو القديمة، وعبر مستطلعي الهلال الهجري الشهري.. فتأتي معه راحتنا المنتظرة.. فلا شياطين تكبل حركتنا وتوقف نبض قلوبنا، ولا نومة مبكرة تحول بيننا وبين طموح ألعابنا الليلية.. يأتي الخبر وتبدأ حكايتنا في ظهيرة أول يوم، حيث جلوسنا إلى جانب أمهاتنا «رحمهن الله» وهن يحضرن طعام الإفطار الذي نتلذذ الجلوس إلى رائحته التي تميزه عن رائحة أي طعام في أي من أيام السنة الأخر.. ثم تبدأ فترة (المسيان) أي ما بعد العصر وما قبل المغرب، حيث تتطاير الصحون الممتلئة بأطعمة رمضانية تختلف من يوم إلى آخر، وبيت بيت وآخر: (هريس، فريد ـ ثريد، خبيص، عصيد، والمعجنات بأنواعها وأسمائها وأشكالها وأحجامها: الخمير، الرقاق، الجباب، المجلب، والقرص المفتوت، واللقيمات ـ أو القروص،...... ، إلخ..)، حيث نكون نحن معشر الأطفال أشبه ما نكون بقطيع من النمل الذي يدب على وبين السكيك.. فقد كنت وإخوتي نحمل تلك الصحون إلى بيوت الجيران (بيت يونس الياسي، وبيت أخيه محمد الياسي «رحمه الله»، بيت سالم بشر، وبيت أخيه أحمد سالم القطري «رحمه الله»، بيت علي وكّالي «رحمه الله»، بيت سعيد العامري، بيت عبدالرحمن ربيع «رحمه الله»، وبيوت أخرى مليئة بحب الاستقبال والتبادل الغذائي الرمضاني).. بيوت نقدم لها ما صنعته أمي «رحمها الله» ونأخذ من تلك البيوت ما صنعته الأمهات في بيوتهن من طعام يختلف عما هو في بيتنا.. بل وكنت في سباق دائم مع شقيقي «علي وعبدالرحمن» للذهاب إلى بيت جدي «عبيد بن ناصر رحمه الله» وتسليمه طبق «أمي» التي تُعرف بنفسها الكريم والمميز في الطعام..
نأتي فيما بعد إلى لحظة الإفطار الجماعي في «المفطر» مع الرجال أمام بيتنا القديم في «الفريج المياني»، حيث يأتي كل رب أسرة بما صنعته نسوة بيته من طعام ليضعه أمام إخوته من آباء الأسر الأخرى ممن يشاطرونه فرحة الإفطار من بعد يوم حافل بالصوم والصبر.. في حين كنت أترك قلبي عند أمي التي تضطر إلى الإفطار بمفردها في البيت لأننا جميعا من الذكور باستثناء «أختي حفظها الله» التي كانت في بيت زوجها «محمد سالم بن جمعة رحمه الله»..
بعد العودة من المفطر، تأتي لحظة الانطلاق إلى «الله سبحانه وتعالى» في رحلة روحانية عبر صلاة التراويح التي كنا نؤديها في «المسجد الجامع الكبير» ـ مسجد بن هديب سابقاً، مسجد سلطان بن زايد حالياً ـ ذلك المسجد الذي كان يجمع الرجال بالنساء بالأطفال من الصبيان والبنات.. وهناك، كانت لنا نحن صغار الأولاد حكايتنا الخاصة مع تلك الصلاة السنوية المقدسة: كنا صغاراً جداً، وكنا نصلي العشاء، ثم السُنّة، ثم تبدأ مراسيم صلاة التراويح التي لم نكن على قدر الصداقة الجيدة معها.. فحيناً ندخل في الركن المخصص لصلاة النساء، وحيناً نلهو أمام باحة المسجد.. وفي كل مرة حين يأتي موعد سجود الركعة الثانية نهرع إلى الصلاة حتى لا يكتشف «أبي رحمه الله» غيابنا غير المبرر.. وهكذا كل الأولاد، وكل الآباء، وهكذا عندما تحين ركعة الوتر، نتسابق جميعاً نحن معشر الصبيان إلى «دعاء القنوت» الذي يشبه التراتيل المقدسة حين يصدح صوت المصلين بتأمين الدعاء «آمين.. آمين.. آمين»... بعدها، نتجه بحواسنا ورغباتنا إلى ممارسة ألعابنا الشعبية المختلفة، وبخاصة لعبة «الغزّولة» الذكورية التي ينقسم فيها الأولاد إلى فريقين، أحدهما يمثل أهل البيت أو أصحاب الأرض الذين يحمون العرين «الهول»، والآخر يمثل الفريق الخصم أو العدو الذي يحاول اقتحام ذلك الهول دون خسائر.. وهي لعبة حربية على مستوى الطفولة المتباينة الأعمار..
على جانب آخر، نخوض تجربة تنافسية أخرى بيننا نحن الأولاد.. إذ نصنع حلقة في المسجد، فنبدأ بقراءة القرآن الكريم بالتناوب.. سورة فسورة، ومن يظفر بقراءة سورة «المسد» أو « تبّتْ « فكأنما حاز على بطولة القرآن الكريم، وعليه في هذه الحالة أن يجلب في اليوم التالي مائدة رمضانية ليلية معتبرة، نكاية «بأبي لهب وامرأته حمالة الحطب» لعنهما الله.. وهنا، أذكر ذات ليلة رمضانية حافلة بقراءة قرآنية، أن حالفني نصيب قراءة «سورة تبّت»، إلا أن أحد الأولاد الذي يكبرني بسنوات، جاهد كثيراً من أجل أن يقرأ هو تلك السورة مقابل إحضار مائدة رمضانية فاخرة في اليوم التالي.. وهكذا أخذت أرفض وأخذ هو يحاول، إلى أن تدخّل أخي عبدالرحمن محاولاً إقناعي بقبول العرض الرمضاني هذا، إلى أن قبلت مرغما لفوات نشوة الانتصار على أبي لهب.. ويأتي اليوم التالي.. فلا المائدة حضرت، ولا صاحبنا أطل بوجهه..!!
وبمناسبة «سورة تبّت ـ المسد»، فإننا نردد دائماً: (تبّت يدا، حِطْ الغدا.. سمك ورويد مزهّبا) ..!!
.. ثم، نعود أدراجنا إلى البيت بعد قضاء وقت ممتع باللعب والتسابق الجسدي والروحاني.. فنأخذ قسطاً من الطعام في بيتنا أو في بيت الجيران إذا كنا بصحبة أمهاتنا في تجوالهن الليلي في بيوت صديقاتهن من الجارات عوضاً عن التجوال النهاري في «ضحى» أو «عصر» أيام الأشهر الهجرية الأخرى غير رمضان.. لننام بعدها بمعية أمهاتنا وآبائنا انتظاراً لموعد وجبة «السحور» الذي نقوم إليه لتناوله ونحن تحت سحر النوم الذي كثيراً ما يهزمنا، فنأكل دون وعي، وحين يصبح الصباح نتوجه بأصابع الاتهام إلى أمي أو أبي «رحمهما الله» لعدم إيقاظنا، وحين نكتشف غير ذلك، نشعر بخيبة الهزيمة، ونستمع بألم إلى زقزقة عصافير الجوع..
وبعد.. ها هو شهر رمضان يقفل عائداً إلى دورته الزمنية التي ستعيده إلينا في عامه المقبل، وها هو العيد يقبل حاملاً معه فرحة الصائمين وعيدية الصغار الذين ينتظرونها مرتين كل عام عيدية الفطر، وعيدية الحج.. ومع كل عيد نتسلح بمفرقعاتنا القديمة «الشّلق» الذي نصم بها آذان المصلين، و«الصواريخ» التي نطلقها باتجاه جلوسهم إلى صلاة العيد واستماعهم إلى خطبته..
ذلك العيد الذي ينتظرنا في المصلى الذي صار اليوم أثراً بعد عين..
ذلك العيد الذي نمشي إليه أفواجاً من بيوت متوزعة في فرجان ثلاثة: «الفريج الشرجي»، «الفريج المياني»، و«الفريج الغربي»).. نمشي إليه راجلين على أقدامنا التي دائماً ما تصاحب الطريق المؤدية إلى المصلى وإلى أماكن عدة في «الرمس»..
نذهب إلى مصلى العيد، ثم تنتهي رحلة المصلى، لتبدأ رحلة البحث عن عيدية البيوت وعن اللحوم التي تحوم فوق سماء موائد الأغنياء العامرة بما لذ وطاب من لحوم وفواكه وغيرها.. وهنا، تتدخل الأسرة في وقت مبكر من العيد: (لا تاكلون وايد، ترى بينطحكم كبش العيد)..!! وذلك حتى لا نتمادى في تناول الطعام الذي ظل زهيداً طيلة شهر وقوده العبادة والصلاة والصيام والقيام والصدقات وجود ما بعده جود..
العدد 2918 - الأربعاء 01 سبتمبر 2010م الموافق 22 رمضان 1431هـ