يمكن القول على الصعيد المعماري، إن البحرين شهدت خلال العقد الأول من القرن 21 طفرة معمارية غير مسبوقة. وهي طفرة معمارية مختلفة عما سبقها من حيث الكم والنوع والسعة والخصائص والدلالات.
فمنذ مطلع الألفية حتى الآن ظهرت إلى الوجود مجموعة من المباني ذات المواصفات الجديدة والحديثة التي لم تكن معهودة من قبلُ على صعيد تاريخ العمارة في البحرين، مما يعني أن هذه المباني بتوقيتها، وبظهورها في هذه البرهة من الزمن تحمل من الدلالات المعمارية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية والحضارية الشيء الكثير.
وإذا كانت العمارة الحديثة في البحرين ذات تاريخ طويل نسبيا بالقياس لبقية دول المنطقة. فإن هذا التاريخ لم تواكبه حركة نقدية معمارية ثقافية، وهذا بطبيعة الحال ينسحب على المنجزات المعمارية التي ظهرت خلال هذا العقد، وهي منجزات تبدو مختلفة تماما عما سبقها كما اشرنا، بل يمكن القول إنها مقطوعة الجذور عما سبقها من حركة معمارية في البحرين ومن أنماط معمارية معروفة، حيث يتطلب ذلك الوقوف عند هذه المرحلة المعمارية والتأمل في معناها ومضامينها القريبة والبعيدة بطريقة نقدية. الأمر الذي لم يحدث حتى الآن للأسف الشديد، لا من قبل المعماريين أنفسهم ولا من قبل المعنيين بتاريخ المعمار ولا من قبل المثقفين والنقاد المعنيين بفنون العمارة وشروطها المتنوعة.
والعمارة في أي بلد من البلدان - وإنْ بدت غريبة على بيئتها - هي في حقيقة الأمر انعكاس لمجريات الأمور في هذا البلد أو ذاك، من سياسة واقتصاد وقيم وثقافة وحراك اجتماعي، وصعود وهبوط قوى مجتمعية. طبعا دون أن ننسى تأثيرات الشروط المحيطة القريبة والبعيدة وخاصة تأثيرات العولمة. وفي هذا لا تختلف بلدنا عن بقية البلدان، لكن الأمر المهم في البنية المعمارية سواء في البحرين أو غيرها انه يظل محكوما بقوانين الداخل وصراعاته وتطلعاته، والتوجهات الفاعلة فيه والظروف التاريخية التي يمر بها البلد بالتشابك مع ظروف ومتطلبات العولمة بمعناها الشامل.
والعمارة أيضا مثلها كمثل أي منجز حضاري، هي كالأدب والفن التشكيلي والسينما والمسرح والموسيقى ومختلف تجليات الثقافة، بحاجة دائمة إلى حركة نقدية موازية كيما تتطور وتتجاوز نفسها باستمرار أو تعيد النظر في مسيرتها، وتعبر في الوقت نفسه عن احتياجات المرحلة وتؤدي وظيفتها المجتمعية والتاريخية والحضارية .
وفي هذا الشأن فإن دور الناقد المعماري يتجلى في بعدين يكمل كل منهما الآخر وهما: تعريف الجمهور بمعنى ومغزى الآثار المعمارية القائمة من ناحية أولا وإيصال رسالة للمهندس المعماري المهني بمدى جدوى ما يقوم به وإمكانية الاستمرار فيه أو التوقف عنه أو تعديله بما يتجاوب والاحتياجات الاجتماعية للعمارة ثانيا.
وفيما يتعلق بالحركة المعمارية في البحرين وخاصة في العقد الأخير من الملاحظ أنها لم تحظَ بأي نوع من النقد الثقافي المعماري أو التدبر على اقل تقدير، وبالتالي لم يتم مساءلة هذه الحمى المعمارية المتمثلة في العمارات الشاهقة والقائمة على الهياكل الفولاذية المصفحة بالألواح الزجاجية، ولم يخطر على بال المعنيين بشئون العمران وعلاقته بالمجتمع مساءلة معنى ودلالة ذلك النمط المعماري في سياق التطور الاجتماعي/ الاقتصادي/ السياسي/ الثقافي في البحرين في المرحلة الراهنة .
على ضوء ذلك، فما أحوجنا لمقاربة ثقافية نقدية لهذا النمط المعماري الذي انتشر بشكل سريع وغير مسبوق في المنامة وفي أكثر من منطقة من مناطق البحرين وبات يشكل معلما من معالم مدينة المنامة وضواحيها التي اختفت معالمها المعمارية التقليدية والتاريخية تحت تأثيره وبريق زجاجه.
حيث يثير ذلك مجموعة من الأسئلة بعضها متعلق بطبيعة هذا الفن المعماري كبنية معمارية من جهة، والبعض الآخر يتعلق بالبيئة الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية التي تحتضن هذا النوع من المعمار، هذا فضلا عن طبيعة الوظيفة التي يقوم بها هذا الطراز المعماري في السياق العام من المرحلة التي تمر بها البحرين.
وفي هذا الشأن أول ما يتبادر إلى الذهن سؤال من قبيل: لماذا هذا النوع من النمط المعماري وليس غيره؟ ولماذا ظهر في هذه المرحلة التاريخية؟ وما هي الظروف المجتمعية التي ساهمت في ظهوره؟
أسئلة لا ندعي أننا نملك الإجابة النهائية عليها لكننا سنحاول أن نقدم بعض الملاحظات ذات العلاقة بهذه الموضوعة.
الملاحظة الأولى: ما نشاهده من مبانٍ وعمارات آخذة في الازدياد في مدينة المنامة والمصفحة بالزجاج، مثل عمائر مرفأ البحرين المالي، وعمارة مركز المالي العالمي، ومجمع الشيراتون، وبرج المؤيد بضاحية السيف وبرج الزامل وأبراج اللؤلؤة، وبرج بنك البحرين الوطني وغيرها من العمارات، كلها إنما تعود إلى ما يعرف بنمط البناء ما بعد الحداثي المنتشر بكثرة في الولايات المتحدة خصوصا، وبعض المدن الآسيوية مثل هونغ كونغ وبانكوك وكوالالمبور بماليزيا، هذا فضلا عن مدينة دبي والكويت، والى حد ما قطر في الآونة الأخيرة. ويطلق على هذا النمط المعماري ناطحات السحاب الزجاجية ويتصف بشكله الجمالي الخارجي وسهولة تشكيله والضخامة والاعتماد على الإبهار البصري، هذا فضلا عن إنشائه على مواقع مهمة واستراتيجية.
فإذنْ بهذا المعنى، فإن هذا النمط المعماري يعتبر مستوردا تماما دون أن يتأثر مطلقا بجماليات وقيم البيئة التي جاء إليها، اعني البيئة البحرينية طبيعة ومجتمعا وعمارة وثقافة وفكرا معماريا.
وإذْ يلاحظ في بعض الأنماط المعمارية المقامة في البحرين نوع من التهجين بين ما هو مستورد وما هو محلي بحيث نكون أمام عمارة هجينة إذا جاز القول. فإن العمارة التي نحن بصددها - عمارة ما بعد الحداثة - تكاد تمثل عالما بذاته من الكتل الزجاجية الضخمة وفي انفصال تام مع ما حولها. على الرغم من كثرة ما حولها من عمارات ومبان، إنها العمارة المعولمة.
وهذا إنْ دل على شيء فإنما يدل على غربة المعماريين لدينا وبالتالي غربة العمارة، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العمارة بمختلف أشكالها ومستوياتها إنما تقام لتؤدي وظائف مجتمعية وتلبي حاجات مجتمعية ووجدانية في الوقت نفسه. ودون ذلك تصبح العمارة مهما كانت جميلة ومصممة على احدث التصاميم ومبهرة، تبقى غريبة ومنقطعة عن جذورها الاجتماعية والطبيعية والثقافية. وأظن هذا ما ينطبق على النمط المعماري الذي شهدته البحرين خلال العقد الأخير. يضاف إلى ذلك انتفاء العلاقة الحميمة بين هذا النمط من المعمار وخصوصية المكان. إنه معمار حداثي وما بعد حداثي ولكن مقلّد وليس أصيل .
الملاحظة الثانية: شهدت هذه الحقبة عملية تحول سياسي كبير، والانتقال من وضع ضاغط سياسيا واجتماعيا، إلى وضع أكثر انفراجا، وبروز قوى سياسية ومجتمعية جديدة وبأفكار وقيم وتطلعات جديدة.
هذا الواقع الجديد لم يمثل محاولة للقطيعة السياسية مع الماضي فقط، إنما محاولة للقطيعة مع الماضي ومنجزاته المعمارية، لذلك ليس مصادفة أن يظهر هذا النمط المعماري بالارتباط بالإجراءات السياسية التي حصلت في العقد الأخير، وبالتالي فإن هذا النمط المعماري، أو ناطحات السحاب الزجاجية، هو بمعنى من المعاني دلالة على المرحلة السياسية التي تمر بها البحرين بما هي مرحلة تحول شامل بالمعنى الدقيق للكلمة. لذلك من الطبيعي أن يحدث تحول في معالم المدينة ومفاصلها.
الملاحظة الثالثة: ترتب على التحولات السياسية التي اشرنا إليها سابقا بروز قوى مجتمعية جديدة تحاول أن تستفيد من التسهيلات التي قدمها التحول السياسي من قبيل بروز العقاريين الجدد والمهندسين الجدد والمستفيدين الجدد والمستثمرين الجدد والتجار الجدد والشركات الجديدة وكلها قوى ارتبطت بمشاريع استثمارية بتكاليف مالية عالية ومن ضمنها هذه الأبنية والأبراج الزجاجية التي يفوق اقلها كلفة مليار دولار... الخ .
هؤلاء اخذوا على عاتقهم الترويج والتأسيس لهذا النمط المعماري المبهور بنمط العمارة الغربية عموما والأميركية خصوصا لأسباب كثيرة اعتقادا منهم أنْ تصبح البحرين هونغ كونغ أو سنغفورة الخليج.
ومما له دلالة في ازدهار هذا النمط المعماري خلال هذه الفترة حدوث وفرة مالية ضخمة بسبب ارتفاع أسعار النفط، وكذلك ترحيل الرساميل الخليجية من البنوك العالمية إلى البنوك المحلية تحاشيا لأي إجراءات من قبل البنوك العالمية تحت طائلة تهمة الإرهاب. وقد تم توظيف جزء من تلك الأموال في إنشاء هذا النوع من العمران.
الملاحظة الرابعة: قلنا إن هذا الطراز المعماري ينتمي إلى الأسلوب العالمي المعولم ذي التأثير الأميركي، وخاصة إذا عرفنا أن من المعاني المرادفة للعولمة هي الأمركة وما يعطي ذلك من دلالات على مدى تأثير الشركات الأميركية في صياغة الذوق المعماري في منطقة الخليج وتدشين مرحلة جديدة من الطراز المعماري المتمثل في الأبراج الزجاجية الدالة في بعض وجوهها على السطوة الأميركية.
الملاحظة الخامسة: على الرغم من الأبعاد الجمالية الاستعراضية والبصرية في هذا النوع من المعمار، فإنه يبقى غريبا على البيئة التي أقيم فيها، وغريبا على المدينة التي انشئ فيها وذلك لعدة أسباب أهمها: افتقار هذا النوع من المعمار للعلاقة الحميمة والطبيعية مع البيئة ممثلة في الأرض والنبات والفضاء، لا لشيء سوى أن المصممين له لم يأخذوا باعتبارهم العلاقة مع البيئة وخصوصية المكان. محاولة التسويق للبحرين باعتبارها المكان المناسب للاستثمارات المالية الإقليمية والعالمية وأنها جديرة بذلك من خلال ما تملكه من بنية تحتية ممثلة في تلك الأبراج الزجاجية العملاقة.
الملاحظة السادسة: افتقاد هذا النمط المعماري للحساسية المجتمعية. بمعنى أن هذه الكتل الفولاذية المصفحة بالزجاج العاكس لا تعكس أي نوع من علاقة المجتمع بها، فهي أشبه بالهياكل الواقفة والمحنطة دون حياة أو ود بما حولها من الناس والأشياء فهي لا تأبه بهم وهم لا يكترثون بها. إذْ الغربة متبادلة، فلا هي تمت إليهم بصلة ولا هم يمتون إليها بصلة ، وخصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الكلفة العالية للشراء والاستثمار في هذه الأبراج إلا من قبل أصحاب الأموال، مما يعني أنها صممت أصلا لتلبية احتياجات فئة محددة، وليس احتياجات المجتمع.
هذا يجرنا إلى القول إن هذا النمط المعماري الحديث والمعولم لم يقم لموجبات حضارية واجتماعية وثقافية مرتبطة بالمجتمع البحريني، إنما لدواعي السوق والاستثمار والمضاربة والاستئثار بالمناطق الحيوية من مدينة المنامة وضواحيها.
العدد 2918 - الأربعاء 01 سبتمبر 2010م الموافق 22 رمضان 1431هـ