في الفصل السابق ذكرنا أنه على الرغم من وجود تأثيرات يونانية في اللقى الأثرية إلا أن هناك هوية محلية إلا أن هذه الهوية المحلية لا يتم التطرق لها إلا في جمل مقتضبة ويتم التركيز في الغالب على التأثيرات الخارجية، في هذا الفصل سنركز على الهوية المحلية والهوية الإقليمية لشعب البحرين في حقبة تايلوس.
عند ما ينظر الآن للمواقع الأثرية التي تعود للحقبة الهلنستية ونعني بذلك المقابر الهلنستية المنتشرة بين قرى البحرين وبالخصوص على طول شارع البديع سنجد بعض التلال التي يحتوي كل تل منها على عدد من القبور متناثرة هنا وهناك بين القرى، إلا أن أعداد هذه التلال كان أضعاف ما هو موجود إلا أن أغلبيتها تم إزالته وبناء منازل وطرقات في موقعها، على سبيل المثال كان يبلغ تلال قبور قرية المقشع ما بين 20 – 30 تل ولكن تم إزالة جزء منها عند ما تم شق الطريق من المنامة للبديع العام 1936 (بوتس 2003: ج 2، ص 819). وعلى مدى السنوات اللاحقة تم إزالة تلال أخرى حتى أصبحت تلك المقابر الهلنستية مجرد قبور متفرقة هنا وهناك وما يستخرج منها لا يمكن التعويل عليه في معرفة ثقافة الشعب المحلي. وقد تساءل جان فرانسواز سال عن تلك الثقافة المحلية التي يعتقد بوجودها والتي تدل على وجود أماكن استيطان ربما كانت مرتبطة بكل مقبرة هلنستية (Salles 1999B)، مواقع الاستيطان تلك هي التي كانت تمثل القرى القديمة التي طمرت تحت أساسات القرى الحديثة ما يدل على وجود امتداد آثاري لتلك القرى.
هناك هويتان محليتان في جزر البحرين القديمة وقد كانتا هما السائدتان في الفترة الهلنستية وذلك واضح من الفخار الذي عثر عليه في المواقع الأثرية التي تعود لتلك الحقبة، حيث تم العثور على ثلاثة أنواع من الفخار: الفخار الشائع المحلي والفخار العربي الانسيابي والفخار المصقول (Salles and Lombard 1999)، وهي تعكس هوية شعب تلك الحقبة الذي يمتلك هويته الخاصة فصنع فخاره الخاص وله هوية أخرى مشتركة مع شعب شرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا ومناطق أخرى في الجزيرة العربية والذي تمثل في فخار مشترك عرف بالفخار العربي والذي نافس الفخار المحلي في ما بين (300 ق. م. – 100 ق.م) وأما الفخار المصقول فقد تحدثنا عنه في الفصل السابق.
مرت الدولة السلوقية بفترات ضعف وأثناء هذه الفترات يعتقد أنه قامت سلطات محلية في شرق الجزيرة العربية والتي ضمت تايلوس (البحرين) لسلطتها. ويعتقد أن السلطات المحلية هذه قامت بإصدار عملاتها الخاصة التي حملت أسماء ملوكها وسم مملكتها. حيث تم العثور على عدد كبير من العملات في جزيرة البحرين وشرق الجزيرة العربية وسلطنة عمان والإمارات العربية وجميعها تقليد لعملة الإسكندر اليونانية التي كانت متداولة في الإمبراطورية السلوقية لكنها تحمل هوية محلية. وفي موقع قلعة البحرين عثر على كنز عبارة عن 292 قطعة من هذه العملات. وسنقوم هنا بعرض سريع لتلك العملات ويمكن الرجوع للتفاصيل عند دانيال بوتس (بوتس 2003: ج 2، ص 733 - 751) ويمكن الرجوع للخلاصة عند (Kitchen 1994، p. (152 – 153
1 – العملة الأولى ويعتقد ضربها العام 220 ق. م. ويظهر فيها راس هيرقليس لابس جلد أسد نيمي وعلى الظهر صورة امرأة جالسة. وقد استبدل اسم الإسكندر الذي يكتب على اليمين باللغة اليونانية بالاسم (أبياثا) الذي كتب بحروف عربية جنوبية. وقد نقش أيضاً أعلى القطعة الحرف (ألف) بالعربية الجنوبية.
2 – العملة الثانية ويعتقد ضربها العام 190 ق. م. وهي شبيهة تقريباً بالسابقة مع تغيرات طفيفة. وقد نقش عليها بحروف عربية جنوبية «حريثات ملك هجر». وقد أستعيض بالنخلة عوضاً عن الحرف ألف.
3 – العملة الثالثة ويعتقد ضربها العام 160 ق. م. وهي شبيهة بالعملة السابقة مع وجود النخلة بدلاً من حرف الألف باللغة العربية الجنوبية. إلا أنه قد نقش عليها بحروف آرامية « أبوئيل بن تلبوش».
يوجد هناك مجموعات أخرى من العملات الشبيهة والتي نقش عليها بحروف عربية جنوبية اسم الإله «شمس» والذي يكتب أحياناً مختصراً فيكتب فقط الحرف الشين بلغة عربية جنوبية.
يلاحظ ظهور لقب «ملك هجر» على بعض تلك العملات، وقد دار جدل حول تحديد مكان مملكة هجر هذه إلا أن هناك من يرجح أن مملكة هجر كانت تضم شرق الجزيرة العربية بالإضافة لجزر البحرين وجزيرة فيلكا، حيث تم العثور على العديد من العملات في هذه المناطق Kitchen 1994، p. 152 – 153). وقد وجدت أعداد كبيرة من هذه العملات في الإمارات وعمان إلا أنه يرجح أن تلك المناطق قامت بتقليد العملات السابقة ولم تكن ضمن أراضي مملكة هجر Kitchen 1994، p. 152 – 153)). ومن خلال دراسة تلك العملات أمكن استخلاص جدول (انظر الجدول المرفق) يبين تسلسل ملوك مملكة هجر في شرق الجزيرة العربية وجزر البحرين.
نلاحظ في الجدول السابق بعض الفراغات وهي الفترات التي قوية فيها السلطة السلوقية. ففي الفترة 200 ق. م. – 190 ق. م. كانت فترة ازدياد قوة الدولة السلوقية إبان تولي أنتيوكس الثالث الحكم والذي نعلم أنه في العام 205 ق. م. قام بحملة كان مقدر لها أن تعيد فرض سلطته على الأجزاء الشرقية من إمبراطوريته، فقد توقف في الجرهاء حيث تم التوصل لحل دبلوماسي بينهما، وبعد ذلك توجه إلى تايلوس (البحرين) ومنها إلى إيكاروس (فيلكا) حيث استعادها بالقوة (Callot 1999). وهكذا فإن إعادة فرض سلطته مكنته من السيطرة على طرق التجارة الإقليمية مرة أخرى ومنع تداول العملة المحلية التي كانت تتحدى عملته، ولكن لم يستمر الأمر طويلاً ففي نهاية حكم أنتيوكس الثالث وقبل وفاته العام 187 ق. م. ضعفت السيطرة السلوقية على المناطق الشرقية ما أدى لظهور العملات المحلية مجدداً. وعادت السيطرة السلوقية لتقوى في فترة تولي أنتيوكس الرابع (175 – 164 ق. م.) الذي أعاد تأسيس الإسكندرية وذلك في العام 166 ق. م. أو 156 ق. م. وأسماها (أنطاكية – كاراكس) (بوتس 2003: ج 2، ص 675). وحالما توفي أنتيوكس الرابع في سنة 164 ق. م. اختفى الوجود السلوقي من الخليج، وعادت العملات المحلية إلى الظهور من جديد وقد استمرت في البقاء حتى القرون الأولى بعد الميلاد (Callot 1999).
في سنة 141 ق.م عين السلوقيون هيسبوسينز Hyspaosines (141 ق.م – 115 ق.م) مرزبان إقليم البحر الإريثري والذي عاصمته أنطاكية - كاراكس. هيسبوسينز الذي يحمل اسماً فارسياً وكان خادماً مدنياً سلوقياً قبل أن يصبح مرزباناً لهم. وقد استغل هيسبوسينز فرصة الأزمة التي كانت تمر بها الدولة السلوقية فاستقل بإقليم البحر الإريثري وأعلن نفسه ملكاً عليه، وقام بتغير اسمه من إقليم البحر الإريثري إلى كاراسين أو ميسين (أو ميسان من الآرامية ميشان) ثم أعاد تأسيس عاصمته والتي كانت تسمى إنطاكية- كاراكس وغير اسمها لتصبح سباسينو- كاراكس Spasinou Charax، وقد قام بإصدار عملات فضية تحمل اسمه (Gatier et al 2002). لا تذكر لنا المصادر التاريخية أي علاقة لهسبوسينز بالسلوقين أو البارثيين الفرس إلا أن تلك المصادر تذكر لنا العديد من النشاطات العسكرية التي قام بها وقد ضم تحت سيطرته العديد من المناطق التي كانت تحت سيطرت السلوقيين. من تلك المناطق تايلوس والجزر المحيطة بها والتي أصبحت جزءاً من مملكته والتي ولى عليها مرزباناً من قبله (Gatier et al 2002).
عثر في البحرين بالقرب من قرية الشاخورة على حجر تأسيس معبد يوناني في البحرين وقد نقش عليه كتابة يونانية عثر ترجمتها التالي:
«باسم الملك هيسبوسينز والملكة ثالاسيا والمرزبان كيفيسيدوروس مرزبان تايلوس والجزر المحيطة يهدى هذا المعبد إلى ديوسكوري سافيورس» (Gatier et al 2002).
يلاحظ أن هذا النقش يمثل حجر الأساس لمعبد لم تحدد أبعاده أقيم في تايلوس تكريماً للآلهة اليونانية ديوسكوري سافيورس Dioscuri Saviours. وهذه الآلهة في الميثيولوجيا اليونانية عبارة عن الأخوان كاستور و بولوكس وهما من ضمن الأشياء التي تحمي الملاحة في المنطقة وهذا يعطينا دلالة أن المعبد الذي أنشئ كان قريباً من مرسى للسفن. وأفضل مكان لذلك سيكون بالقرب من قلعة البحرين التي لا تبعد كثيراً عن الشاخورة حيث وجد هذا النقش بالإضافة أن موقع قلعة البحرين هو من أقدم المراسي في البحرين. ويعتبر هذان الأخوان في الشرق الأوسط كما في أماكن أخرى وحتى نهاية الفترة الهلنستية لهما ميزة رسمية وملكية ويونانية. وأول ما أعطيت لهم هذه الميزة كانت من قبل السلوقيين واستمر عليها البارثيين الفرس والبكتيرين.
نعود للنقش مجدداً ونلاحظ فيه طريقة الكتابة الرسمية التي اتبعته العديد من الإمارات الهلنستية وذلك باقتران اسم الملك وزوجته أي هيسبوسينز وزوجته التي تحمل الاسم اليوناني (ثالاسيا) النادر بعض الشيء. ويوضح النقش اسم الحاكم المحلي لتايلوس وما حولها من جزر (أي أرخبيل البحرين) والذي يحمل لقب مرزبان أو ساتراب satrap (بالأغريقي strategos) وهو يحمل اسماً إغريقياً هو كيفيسودوروس Kephisodoros. ويبدو لنا أن سيطرة كاراسين على جزر البحرين ما هي إلا امتداد للسيطرة السلوقية. وهذا يعيدنا لنقطة مرور أنتيوكس الثالث بتايلوس أثناء رحلته لشرق الجزيرة العربية والتي لا تحدثنا المصادر التاريخية عن هدفها. فيبدو أن ذلك لم يكن مروراً بل سيطرة أو إعادة سيطرة على الجزيرة.
بعد أن استقلت كراسين عن السلوقيين عاشت في ظل الإمبراطورية البارثية الفارسية، وطوال فترة السيطرة البارثية على المنطقة لا نعلم شيء عن جزر البحرين ونفترض أنها بقيت تحت سيطرت كاراسين والتي بدت بوضوح سيطرت البارثيين عليها في بداية القرن الثاني الميلادي. ففي العام 115م أصبح أتامبيلوس السابع (Attembelos VII ( م 115 - 117 حاكماً على كاراسين و كان يميل إلى الرومان فما كان من الملك البارثي أوزرويس Osroes (108 م – 127 م) إلا أن قام بخلعه Kitchen 1994، p. 163)). وهكذا حكم البارثيين كاراسين بصورة مباشرة منذ 117م وحتى 130م عندما تم تعين ميردات Meredat (130 م – 151 م) أحد الحكام البارثيين حاكماً لكاراسين وبذلك تعتبر حقبة ميردات امتداداً لحقبة السيطرة البارثية على الخليج العربيي. وفي أيام ميردات عادت تايلوس للظهور من جديد فيقدّم لنا نقش هام اكتشف العامين 1940م/1939م خلال موسم تنقيبات تدمر، منظوراً مختلفاً تماماً عن البحرين. وينتمي نصّ هذا النقش إلى مجموعة نصوص تدمرية معروفة بـ « نقوش القوافل»، كّرم فيها مواطنو تدمر مواطناً لهم شهيراً، تقديراً لما أسداه من خدمات في تجارة القوافل بين تدمر وبلاد بابل. وفي هذه الحالة، يروي النص أن تجار تدمر في سباسينو - كاراكس نصبوا سنة 131م تمثالاً في تدمر تكريماً لـ أيارهاي بن نبوزبد وقد اتصف هذا النص بأهمية بالغة لأنه حكى بأن أيارهاي خَدَمَ، فيما يقال،«مرزبان التلوانيين» عند ميردات، ملك سباسينو - كاراكس». وقد ناقشنا هذا النقش بالتفصيل في الحديث عن تايلوس وتالون في فصل سابق.
وقد حقق ميردات الكثير من الإنجازات فقد مد سيطرته حتى عمان وسكت العملات باسمه ونقش على تلك العملات «ميردات بن فوكورس ملك الملوك وملك عمان» (بوتس 2003: ج 2، ص 1127).
لكن لم يلبث حظ ميردات السعيد أن تبدل فقد نشب فيما يظّن نزاع بين ميردات وبين أسر أخرى من النبالة البارثية. فأزاحه عن عرش كراسين الملك البارثي فولوجاسيس الرابع، ومنذ ذلك الوقت، تأسس نفوذ سياسي بارثي غالب في الخليج العربي.
العدد 2918 - الأربعاء 01 سبتمبر 2010م الموافق 22 رمضان 1431هـ