عند المصائب الشِّدَاد تغيب الكلمات وترتجف الحروف. هذا هو حالَ القلم إذا ما رامَ يكتب عن بلاد الرافدين. ومثلما قلتُ سلفاً. يُنسِي لاحق العراق سابقه لهول الحدث منذ سبعة أعوام خلت. في يوم الأربعاء الماضي سالَ دمٌ غزير وعزيز في عشرين منطقة بعُموم العراق. قُتِلَ ستون شخصاً وجُرِحَ مِئتَان في تفجيرات مُروّعة استهدفت قوات الأمن. ولو اعتمدنا معادلة رياضية لفهم الحدث وتداعياته فإن الأمر يُصبح أكثر جسامة من حيث التأثير ووقع المصاب.
المعادلة تقول: بأن هؤلاء الضحايا ينتمون إلى ستين أُسْرَة عراقية. ولو افترضنا أن هذه العوائل (كلٌ على حِدَة) تتكوّن من خمسة أفراد (على أقل تقدير) فهذا يعني أن 300 شخص سيكونون مَكْلُومين بشكل مباشر في عزاء فقيدهم الذي راح ضحية في التفجير. وإذا ما اعتبرنا أن هذه الأسَر تنتمي إلى أفخاذ عشائريّة مُركّبة لا يقل عدد نفوس الواحدة منها عن الألف فهذا يعني أن ستين ألف عراقي هم في مأتم مفتوح.
وإذا ما انسحبت هذه المعادلة على الجرحى البالغ عددهم 200 جريح وبدرجات متفاوتة، فإن الرقم سيتضخّم بشكل مهول حين يُعلَم أن الرقم يلامس المئتي ألف عراقي. والأكثر فداحة حين تُراكَم هذه الأحداث منذ العام 2003 ولغاية اليوم لتصبح «هولويودية» بامتياز، وقد لا يستوعبها أحد. وإذا ما استحضرنا التفجيرات الدامية من العيار الثقيل والتي ضربت مواقع عدّة في العراق كالتي جرت في بغداد ومدينة الصّدر، والمُسيّب والخالص وبعقوبة فإن المعادلة ستتوسّع أكثر وأكثر.
وإذا ما قرّرنا أن أعلى مُعدّل للضحايا هو خمسون قتيلاً يتكرّر عَشْرَ مرات في العام الواحد (على أقل تقدير) فإن الرقم سيصل إلى 500 قتيل في العام الواحد. وإذا ما افترضنا أن عدد الجرحى على هامش التفجيرات هم 100 جريح فهذا يعني أن 1000 عراقي جُرِحوا (وفقاً للمعادلة الموضوعة) في تلك التفجيرات أو عمليات القتل المختلفة. بمعنى أن 3500 عراقي قتلوا في بحر سبعة أعوام نتيجة للتفجيرات المُفترضة، وجُرِح 10000 آخرين.
وحسب المعادلة المذكورة، فإن إحالة هذه الأرقام على الافتراض سيعني أن هناك 17500 عراقي هم مفجوعون بشكل مباشر في فقدان حبيبٍ لهم. وأن ثلاثة ملايين وخمسمئة ألف عراقي آخرين هم ضمن دائرة العزاء. أما فيما خصّ الجرحى فإن عدد ذويهم سيصل (ووفقاً لتلك المعادلة أيضاً) إلى عشرة ملايين عراقي! بالتأكيد فإن تلك المعادلة لا تنسحب على ضحايا الحرب الطائفية التي اندلعت بين عامي 2006 و2007 والتي قتِلَ فيها عشرات الآلاف من العراقيين، وإلاّ أصبح الرقم فلكياً.
في كلّ الأحوال فإن القضية هي شائكة ومُعقدة ودامية قبل كلّ شيء. وهي تحدث اليوم في ظلّ غياب التشكيلة الحكومية نتيجة افتراق مصالح الكتل الفائزة، وانسحاب أميركي وشيك، وشرطة عراقية متعددة الولاءات ومنخورة العظم نتيجة الفساد. وهو ما يعني (وحسب توصيف وزير الخارجية العراقي) أن الوضع الآن هو الوضع المثالي «للإرهاب». لكن الأكيد أن هذا الوصف ما هو إلاّ نتيجة بعيدة عن استقراء الأمور ومُسبّباتها كما يجب.
الآن نحن نتحدث عن مُضِي 177 يوماً على إجراء الانتخابات التشريعية، ومازال بازار السياسة يُراوح بين صفقات وقِسْمات يهنَأ فيها هذا الفريق، ويخسر فيها الفريق الآخر. لم يدّخر العراقيون دولة إلاّ وشَحَتوا منها وساطة تُنهي ما هُم عليه من خلاف. حتى الأميركيون (وهم المحتلون) دخلوا على الخط. الإيرانيون، الأتراك، السوريون، الروس، الأردنيون، مراجع تقليد توسّلات شعبية. لم يبقَ أحد في المحيط إلاّ وحاول التوسط دون جدوى.
وما زاد الطّين بلّة هو أنه وفي أتون هذه المفاوضات فقد أصبحت جميع الكُتل تبيع جزءاً من وطنيتها (ووطنها أيضاً) لصالح حصولها على النصيب الأكبر من كعكة السلطة والنفوذ. البعض الآخر استمرأ بيع القوانين والتشريعات والخدمات المدنية لذات الهدف كما حصل قبل أيام في مجلس محافظة النجف الأشرف حين تمّ تمليك المتجاوزين على الأراضي، بُغية استمالة التيار الصّدري لتدعيم إعادة انتخاب نوري المالكي لولاية ثانية. هذا فيما خصّ التشكيلة الحكومية المُعطّلة.
أما عن الانسحاب الأميركي، فإن هذا الانسحاب يأتي خارج السياق الطبيعي للأمور. فالبلد سائرة إلى «الأسوأ» بعدما كانت في «السيئ» قبل مجيئه في أبريل/ نيسان من العام 2003. وهو اليوم يتركها إلى المجهول دون أن يُرجعها إلى «سيئها» الأول على أقل تقدير. فهو يُبعد قواته عن الالتحام المباشر مع المقاتلين العراقيين، بعد أن أمّن لمنظومة الشركات الأميركية حظوة لا تكرر في بلد بِكر في موارده، وفي اقتصاده الذي سيُشيّد وفقاً لمعطيات هذه الشركات والمصالح الأميركية.
والغريب، أن هذا الانسحاب قد سَبَقَه حملة علاقات عامّة، تفيد بقدرة القوات العراقية على التعامل مع الأزمات الأمنية بشكل جدّي. ورغم أن هذا السّكون في حملات الترويج الأميركية قد قطعه تصريح رئيس هيئة الأركان العراقي بابكر زيباري والذي يقول فيه إن القوات العراقية لن تكون جاهزة قبل العام 2020، إلاّ أن الخطة اقتضت أن تسير الأمور هكذا.
أما الحديث عن قوات الشرطة العراقية فهو ذو شجون. فإحالة الأمن إليها في العراق في هذا الأوان هو «جنون أمني» بامتياز. فهذه القوات التي يزيد تعدادها عن 600 ألف منتسب، (وهي الأعلى حجماً في العالَم طبقاً لعدد السّكان) بعيدة كلّ البُعد عن مفهوم الشّرطيّة والانضباط. فسبعون ألفاً من أعضائها يعملون «صوريّاً» في الجهاز نظير رشوة يتقاسمها الشرطي مع آمره في الفوج حسب تأكيد وزير الداخلية جواد البولاني.
وبعضهم يعمل شرطياً في الثكنات وفي مراكز الشرطة، لكن رئته تتنفّس داخل مقرّات الأحزاب التي ينتمون إليها. بل إن بعضهم لم يعد يعبأ بعد بالتعليمات العسكرية العليا الصادرة من القائد العام أو من قيادات الأمن الكبار، ويحرص على الانضباط في الاجتماعات الأمنية في الأحزاب التي أتوا منها بعد الاحتلال.
وقد تبيّن أن كثيراً من ضّباط الأمن والشرطة يفتقرون إلى أبسط أنواع الثقافة الأمنية وخبرات الميدان والاتصالات. فجلّهم جاءت بهم الأحزاب رغبة منها في تأمين نفوذ لها في المنظومة الأمنية. وإذا ما عُرِفَ أن كثيراً منهم كان يعمل ميكانيكياً أو كهربائياً أو حتى عَتَّالاً في المهجر فما حاله اليوم وهو يتصدّى إلى أخطر جهاز وفي بلد مضطرب كالعراق.
في المُحصّلة، فإن هذه الأمور الثلاثة قد تكون أوجه الأسباب التي تجعل الأمن في العراق على كفّ عفريت. وهي مُسبّبات مترابطة بشكل عضوي. وإذا ما أُرِيْد للعراق أن يستقرّ وجَبَ معالجة هذه الأسباب من الجذور.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2915 - الأحد 29 أغسطس 2010م الموافق 19 رمضان 1431هـ
الحياء والخجل
الحل في العراق هو الاحساس بشيء من الحياء والخجل فقط
رحم الله الأمن والأمان
كانت العراق تنعم بالأمن والأمان وكان العراقيون من أكثر الشعوب علماً وثقافة وحضارة . . لكن الكثير منهم كان يطمع في الحصول على مكتسبات طائفية بحتة فلم يتورع عن التحالف مع الأغراب الذين كانوا يتحينون الفرصة المناسبة للإنقضاض على العراق وقد وجدوها في الخونة والأنذال فباعوا بلادهم بدريهمات قليلة للأجنبي . . وهاهم يعيثون فيها الفساد وينشروا الفوضى فرحمة الله على الأمن والأمان .
ثمار الطائفية
هذه ثمرات الطائفية و التأجيج و التي يريدها المغرضون لحرق البلد و من يشجعهم .