الوحدة الإسلامية، هذا الشعار المرفوع دائماً وأبداً على مر الأيام والسنين يمثل عند المسلم، الحلم الذي يرنو إليه، ويربط به آمال المستقبل كلها. وهو المقدم على أي شعار أو هدف آخر.
وهذا لا يعني أن الفهم للحلم واحد وأن النظرة العملية واحدة، كما لا يعني أن هناك أدنى اتفاق على السبل الموصلة إلى الغاية السامية، فلكل طائفة آراؤها ونظرياتها بشأن المسألة، فالبعض يرى أن وحدة الأمة لا يمكن أن تتحقق إلا بالتفاف المسلمين على الكتاب والسنّة، بينما يرى البعض الآخر أن الخلافة ونصب خليفة للمسلمين هو السبيل الذي ينبغي سلوكه للوصول إلى وحدة الأمة، ويذهب آخرون إلى ضرورة إلغاء المذاهب الإسلامية كي تعود الأمة واحدة ثم يأتي الجهاد والاجتهاد والقضية الجامعة كسبل في رأي بعض المسلمين للوصول إلى الوحدة المأمولة.
القرآن الكريم هو النص الإلهي المنزل على هذه الأمة وهو الذي شكل عامل الوحدة الأول منذ زمن الرسول (ص) لكونه أصل هذه الأمة وهي مجمعة على اختلاف المذاهب فيها على صدقه وأنه لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، وأنه من عند الله وأن الأخذ بما فيه واجب وهو عند الأمة بأسرها قطعي الثبوت إلا أنه ليس قطعي الدلالة دائماً، فهناك آيات قطعية الدلالة وهناك آيات ظنّية الدلالة. لذلك اعتبر المسلمون أن القرآن حمّال أوجه، أي أنه يحتمل أكثر من تأويل في كثير من آياته كما قال أمير المؤمنين علي (ع) والقرآن موضوع للتدبر والتفكر أي أنه مجال إعمال العقل والفكر وأدواتهما في فهم معانيه واستخراج أحكامه ودلالاته.
والسنة النبوية المشرفة هي المعين على ذلك، إذ إنها المبينة للكتاب، المفصلة لمجمله، المقيدة لمطلقه، المخصصة لعمومه، إلا أنها كنص ليست قطعية الثبوت فهي مختلف في ثبوتها ومختلف في دلالاتها.
فإذا كان القرآن الكريم موضوع تدبر، قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)، وإذا كان للعقل دوره في فهم معاني الكتاب واستخراج دلالاته وأحكامه، والعقل ليس متساوياً لدى الناس إن في مستوى معارفه أو في قدرته على الربط والتحليل والاستنتاج؛ وإذا كانت السنة المطهرة مما اختلف فيه من حيث الإثبات والدلالة، كان لابد من حصول الاختلاف في فهم أحكام الكتاب مع بقائه أساس الوحدة الأول الذي تجتمع الأمة حوله كنص مقدس.
نشأت المذاهب بسبب اختلاف الفهم الناتج عن التدبر في الكتاب والسنة الذي أدى أحياناً إلى اختلاف النظرة إلى الوقائع الطارئة على المسلمين بعد رسول الله (ص) وكيفية التعاطي معها. لذلك لم تكن المذاهب كلها في الأصل فقهية المنشأ بل نشأ بعضها لأسباب سياسية ثم تطورت بعد ذلك لتشمل الجانب الفقهي. كما أن المذاهب التي نشأت فقهية صرفة أخذت فيما بعد طابعاً سياسياً بسبب موقفها من الحكّام أو موقف الحكام منها. ولا يخفى أن المذاهب كانت كثيرة بعدد الفقهاء، ولكن اندثر أكثرها وبقي القليل منها لأسباب وعوامل سياسية أو جغرافية أو اجتماعية، أو لأسباب خاصة.
بحيث لم تعد المذاهب المندثرة موجودة إلا بشكل جزئي في كتب الفقه المقارن أو التفسير أو غيرها من الكتب العلمية الإسلامية، كذلك تأثرت هذه المذاهب بالمدارس الكلامية المختلفة مما جعلها تصل إلى مرحلة أفتى فيها البعض بحرمة الزواج بين أتباع المذهبين المختلفين، أو أن حكم المخالفة في المذهب على أقل تقدير هو حكم الكتابية.
وأدى القول بإغلاق باب الاجتهاد عند البعض إلى جمود في الفقه والفكر، مما أعطى آراء السابقين قدسية ليست لها في الأصل وأدى إلى ازدراء أقوال المعاصرين والاستخفاف بها إذا لم تكن موافقة لآراء السابقين.
هل يفهم من هذا أن المذاهب هي سبب تفرق المسلمين وأنه إذا ألغيت المذاهب تتحقق وحدة المسلمين؟
الجواب بالتأكيد كلا، فالمذاهب في الأصل أمر طبيعي إذ إنها تمثل فهم الرجال للتشريع المخاطبين به والمطالبين بفهمه ولا يمكن للأمة أن تكون على فهم واحد لتشريع كالتشريع الإسلامي نظراً للمرونة الهائلة التي يتمتع بها هذا التشريع، من هنا لم يتحسس واضعو المذهب من مخالفيهم في الرأي كما يتحسس الأتباع من مخالفيهم. بل كانوا ينظرون إلى آرائهم على أنها محتملة للصواب والخطأ، لذلك نقل عنهم قولهم: «هذا رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب» كما نقل عنهم القول: «إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط».
من هنا نرى أن المذاهب الفقهية لا تأثير لها مطلقاً على وحدة الأمة وهي ليست سلبية أبداً في هذا المجال.
ولكن هناك استدراك على المسألة يتعلق بالخلفية السياسية التاريخية لهذه المذاهب، فما هو تأثير أحداث التاريخ الإسلامي على وحدة المسلمين في واقعهم الحالي؟ وخصوصاً أن كل مذهب يتبنى رأياً من آراء المختلفين سابقاً ولو بشكل رسمي، وهم يستحضرون أحداث التاريخ لتكون الشاهد والموجه لكل حوار ينشأ في الحاضر ما يؤدي إلى فشل الحوار، إذ لا قدرة لأحد على تغيير أحداث انقضى زمانها، ويؤدي إلى تحكيم ماضي الأمة في مستقبلها وتحكيم فرقتها في وحدتها.
ينظر جمهور المسلمين للخلافة على أنها جسدت تاريخياً وحدة الأمة الإسلامية، فالخليفة هو رمز وحدة الأمة الإسلامية وهو ولي أمرها، تجب طاعته أياً كانت الطريقة التي وصل بها إلى هذا المنصب، سواءً أكان ذلك بالبيعة الشوروية الشرعية، أم كان بالقهر والغلبة والظلم.
لذلك وضع بعض المسلمين نصب أعينهم عودة الخلافة وإعادة منصب الخليفة في الأمة، وجعلوا الفكرة محور عملهم الأول. ومع تسليمنا بأن الخليفة هو رمز وحدة الأمة وتوحدها، وقد ثبت ذلك خلال الصدر الأول على أيام الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم حيث جسد كل خليفة منهم وحدة الأمة إلا أن الأمر أخذ بعد الراشدين منحى آخر حيث لم يعد الخليفة رمزاً للوحدة وإن بقيت الخلافة رمزاً للوحدة، فقد كان خصوم الخلفاء ينازعون الخلفاء في حقهم في الخلافة وفي شرعية ولايتهم، وليس فيما تمثله الخلافة؛ لذلك ومن المنظور التاريخي فإن منصب الخليفة صار يجسد وحدة السلطة وليس وحدة الأمة. وبما أن السلطة مثار نزاع وخلاف فقد انعكس أثر ذلك على واقع الأمة وأصبحت الخلافة هدفاً للثورات والعصيان، وكانت القوة هي الحكم، وحد السيف هو الفيصل.
ثم أصبح منصب الخليفة أو اسمه بعد ذلك مع ضعف دولة العباسيين، ستاراً لأصحاب القوة والسلطة والنفوذ يستظلون بظله ليكسبوا شرعية دينية وسياسية تمكنهم من قمع مخالفيهم والقضاء عليهم سواءً كانوا سياسيين أو عقائديين أو مصلحيين، وتمكنهم من الاستئثار بالسلطة. وهؤلاء الخلفاء أصبحوا ألعوبة في أيدي من يملكون القوة والسلطان أمثال بني بويه والسلاجقة وغيرهم.
وهنا أصبحت الخلافة رمزاً سلطوياً صرفاً.
مما لاشك فيه أن هناك عوامل أفقدت الخلافة رمزيتها وهذه العوامل تتجسد في الخروج على قضية الشورى والابتعاد عن مفهوم الوحي الإلهي وتحول الخلافة إلى ملك عضوض وجبرية.
هل يمكن للخلافة أن تعود رمزاً لوحدة الأمة؟
إن هذا الأمر يحتاج إلى تأسيس يستفاد فيه من أخطاء الماضي وثغراته بحيث تتحول الخلافة إلى مؤسسة تقوم على قواعد واضحة أهمها الشورى الملزمة فلا يكون الخليفة مطلق الصلاحية وإنما يقيد بمجلس من أهل الحل والعقد والاختصاص وألا تكون الخلافة مدى الحياة وإنما يخضع الخليفة للحساب من قبل الأمة فيما يتعلق بمصالحها، وذلك بواسطة ممثلين لا يملك الخليفة عزلهم أو التأثير عليهم.
لقد مثل الجهاد في سبيل الله على الدوام أوضح عوامل وحدة الأمة، وكانت مواجهة العدو تلعب دوراً فاعلاً جداً في لجم الخلافات والصراعات مهما تكن، فتتحد الأمة فوراً وراء المقاتلين لأعدائها من الكفار والمشركين وتمد المجاهدين بكل ما تملكه من طاقات وإمكانات وكم من قادة فرقتهم السلطة ووحدتهم مواجهة الأعداء.
ولعل أهم دليل على ذلك اتفاق علي (ع) ومعاوية رغم الحرب القائمة بينهما على توحيد قواتهما لصد هجوم بني الأصفر (الروم) إذا ما وقع على واحد منهما. وكذلك من الأمثال التاريخية نجدة ابن تاشفين للصاحب بن عباد عندما هاجمه ملك قشتالة الإسباني المسيحي وقد ردت النجدة الملك الإسباني على أعقابه. وكم من حاكم أو سلطان اعتلى سدة الحكم بالقهر والظلم رغماً عن الناس لم يكن يشفع له عند المسلمين إلا قيامه لقتال أعداء الإسلام الذين يتهددونه.
ومايزال الجهاد حتى يومنا هذا أهم عوامل وحدة الأمة ومصدر عزتها والأمثلة على ذلك كثيرة.
لقد حث الرسول (ص) على الجهاد كثيراً، ومن أحاديثه في ذلك: «ما ترك قوم الجهاد إلا ذلّوا» وقوله: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة». إن أهم ما في الجهاد أنه يوحد طاقات الأمة ويوجهها لصد أعدائها.
ولكن هل كل قتال هو جهاد؟ أم أن الجهاد هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا؟ إن كل قتال لا يكون في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا، هو خارج نطاق الجهاد الإسلامي المعهود، وحماية الأرض والعرض والثروة الإسلاميين من الأعداء هو ما يجعل كلمة الله هي العليا في الأرض.
هذه العناوين التي تحدثنا عنها لانشك في أنها مفردات لها أهمية عظيمة في إظهار وحدة الأمة الإسلامية لكنها إذا كانت مجردة لا يمكن أن تقدم شيئاً على طريق الوحدة، من هنا لابد من قضية جامعة وموحدة لتصب الجهود حولها.
مما لاشك فيه أو مطلوب لخدمة قضايا الأمة وإظهار قوة بأسها وإرهاب عدوها، لذلك لا يمكن أن تتجلى وحدة الأمة ما لم تكن هناك قضايا تستحثها وتستنهض الهمم لإظهارها، وهذه القضايا يجب أن تكون على مستوى رفيع من مطامح الأمة.
فإذا تحددت القضايا المهمة أمكن حينئذٍ تحديد المسار الذي يجب سلوكه. فما هي القضية التي تجمع الأمة عليها؟
إننا نرى أن أهم قضية للمسلمين كما بيّن القرآن هي الدعوة إلى الله ونشر دينه بين الناس.
ونشر الدين ليس المقصود به هنا هو دعوة المسلمين لالتزام أحكام دينهم وترك المعاصي وإنما المقصود أيضاً هو دعوة غير المسلمين للدخول في الإسلام والتزام أحكامه.
دعوة غير المسلمين من النصارى واليهود والوثنيين أو الملحدين للدخول في الإسلام ليس لها وجود في عصرنا على صعيد أنظمة الدول الإسلامية الرسمية بل لعلها عند البعض من الأمور غير المستحسنة، وإذا ما كان هناك من نشاط في هذا المجال فهو نشاط فردي على الأرجح.
في سياق هذه القضية الكبرى التي تتوحد عليها الأمة تنساق القضايا الجزئية تتلازم معها وتأخذ القضايا من القضية الكبرى كل ما يمكّن من الفوز بها. أما إذا كانت القضايا الجزئية منفصلة أو غير مرتبطة بالقضية الكبرى فتصبح هذه القضايا حينئذٍ مثار خلاف وتأويل بحيث تصبح قابلة للمساومة والتنازل عنها فيما بعد كما حصل مع قضية فلسطين.
من هنا لا نرى القضايا الجزئية موحدة للأمة حال فصلها عن قضيتها الكبرى.
إذا ما عدنا إلى القدوة، رسول الله (ص) نراه حمل القضية الرئيسية الكبرى فانضوت تحتها كل القضايا الصغيرة، من هنا سهل عليه تحديد الأهداف التي يرمي الوصول إليها وهذه الأهداف هي:
-التوحيد الخالص لله تعالى.
-تحطيم الشرك المتمثل بالأصنام وعبادتها من قبل المشركين.
-نشر الدعوة وقتال كل من يقف في سبيل نشرها والقضاء عليه.
-القضاء على الظلم والطغيان بشكل عام.
-عبادة الله تعالى، وفعل الصالحات وترك المنكرات.
هذه الأهداف تشكل عناوين جزئية كلّ بشكل منفرد ضمن القضية الكبرى للرسول (ص) وهي نشر دين الله في الأرض.
وهذه الأهداف على تعدادها واضحة جلية ومحددة، وإن كانت كثيرة التفرع. وقد استطاع الرسول أن يحقق معظم تلك الأهداف قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
هذه القضية الكبرى هي القضية الجامعة للأمة اليوم والأهداف التي يجب أن تحدد في إطارها لتوضيح المسار وتحديده هي الآتية:
- التوحيد الخالص لله تعالى سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بالإضافة إلى التوحيد العقائدي، إذاً لا معنى اجتماعياً للتوحيد العقائدي ما لم يشفع بالتوحيد السياسي والاقتصادي.
- محاربة الظلم والطغيان والاستكبار المتمثل بأميركا والغرب و»إسرائيل».
- القضاء على القارونية والفرعونية والهامانية في داخل الأمة (نسبة إلى قارون وفرعون وهامان).
- نشر الإسلام في كل البقاع ومواجهة من يقف في طريق الدعوة بكل الوسائل المتاحة.
- عبادة الله تعالى وفعل الصالحات ومحاربة المنكرات كما حددها الشرع.
إن هذه الأهداف تطال كل القضايا الجزئية كقضية فلسطين وكشمير، بل تطال قضايا الاقتصاد والبيئة وحرب النجوم، والتسلح... الخ.
إن الوحدة ليست قضية ترف فكري، إن الوحدة منهج حياة. إن الوحدة لا تعني أن تصبح الأمة رجلاً واحداً، إنما تعني أن تصبح الأمة على قلب رجل واحد.
العدد 2912 - الخميس 26 أغسطس 2010م الموافق 16 رمضان 1431هـ