كل فترة يتعرض العالم الإسلامي لموجة من «الفتاوى» التي تصدر من هنا وهناك عن جهات لا وظيفة لها سوى إطلاق تصريحات تحرم أو تحلل من دون انتباه للتداعيات السلبية التي تثيرها اجتهادات قاصرة ومتسرعة في قضايا حساسة أحياناً أو بالية وسخيفة أحياناً أخرى.
هذه الموجات المخجلة من «الفتاوى المعاصرة» بدأت تضر بالإسلام نظراً لما تثيره من قضايا لا قيمة لها ولا اعتبار وتفتقد إلى قواعد أصولية في الاجتهاد وتفتقر إلى أدلة عقلية تعانق النقل في شروطه وفروعه.
إثارة مسائل سخيفة وسطحية من جهات لا وزن لها باسم الدين باتت تتطلب وقفة عملانية تضع حداً لموجات فتاوى الفضائيات والإنترنت لأنها تساهم في تسخيف الإسلام وتسطيح اهتماماته ومقاصده الكبرى وتضعه في منزلة دنيا تستعدي الناس ضد المسلمين أو تعرضهم للشماتة والسخرية من قوى معادية تقتنص الفرص لتعزيز حملتها والتشهير بالقيم والأخلاق والغايات التي تريدها الرسالة من الناس.
فتاوى الفضائيات والإنترنت أصبحت بحاجة إلى جهد مضاعف لإصلاح تلك التشوهات التي تصدر عن جهات تدعي القدرة على إصدار «فتاوى» لا وظيفة عملية لها سوى الإساءة للدين وتعريض المسلمين للضحك والبهدلة والإهانة.
هذا النوع من «الفتاوى» الوضيعة في مقاصدها والمتواضعة في وعيها والسخيفة في توجهاتها حرّمه الكثير من العلماء والفقهاء لأنه خارج المألوف ويبتغي النيل من أهداف الرسالة الكبرى ومقاصدها الإنسانية. طلب الشهرة من خلال التشهير بالإسلام من دون علم بشروط الاجتهاد وأصوله وقواعده النقلية والعقلية يعتبر خطيئة ترتكب ضد الدين لأن الهدف من الفتوى ليس خدمة الناس وإنما بهدلة المسلمين وتسخيفهم وتعريض إيمانهم للشماته والسخرية من الآخرين.
بناء على هذه الأسس وضع المجتهدون وعلماء الأصول قواعد نظرية يحتكم إليها قبل إطلاق الفتوى، لأن إطلاق الكلام من دون قيود وإثارة نقاط لا حجة لها ولا صلة لها بالعلم والدين يعتبر جريمة ضد الإسلام ولا يؤخذ بها لا في الأصول ولا في الفروع.
من أهم تلك الشروط تحدث المشرعون عن وظيفة «الفتوى» وقيمتها ودورها والهدف منها وفائدتها للجمهور. فإذا كانت سخيفة فهي لا معنى لها لأن ضررها سيكون فادحاً على المسلمين.
الوظيفة إذاً مسألة مهمة في «الفتوى» وإلا أصبحت مجرد كلام يطلق في الهواء للإثارة وكسب الشهرة من دون اكتراث للانعكاسات السلبية على المؤمنين. وطلب الشهرة على حساب العقيدة يعتبر جريمة ضد العقل والنقل في آن.
إذا لم يكن للفتوى من فائدة عملية تذكر ولا ترد على حاجة فإنها تصبح فاقدة لشرعيتها في اعتبار أن الاجتهاد يتأسس شرعاً على تلك الصلة العضوية بين الشرع (الأدلة النقلية) بالعقل (الأدلة العقلية). وحين تصدر الفتوى من جهة لا تمتلك تلك الصلة العضوية تخسر وظيفتها العملانية وتسقط مع الزمن لكونها لم تصدر عن صاحب حجة أو باع.
كذلك إذا كانت المسألة المرسومة التي ينطق بها «فقهاء» الفضائيات والإنترنت فرعية ولا حاجة لها تصبح لا لزوم لها ولا يمكن الأخذ بها فقهياً لكونها تتعرض لجوانب سخيفة وباهتة لا معنى لها سوى إهانة المسلمين وتعريض المؤمنين للشماتة والسخرية.
قيمة الفتوى تستمد أهميتها وقوتها من صلة المسألة بالعمل (الفائدة والوظيفة). وكل مسألة خارج السياق الزمني (حاجة الجمهور) تصبح خارج السياق الشرعي ولا يؤخذ بها لأنها أصلاً لا قيمة فعلية لها.
وظيفة التشريع أساساً خدمة الجمهور لا إطلاق «اجتهادات» سخيفة تفتقد إلى مستند فقهي أو عقلي. لأن الشارع أكد أن كل علم شرعي بشرط أن تكون وظيفته التعبد لا اعتبارات أخرى (طلب الشهرة مثلاً). فالعلم هو الباعث على العمل لا الكلام الذي يقوله صاحبه على هواه. لذلك اشترط المشرعون الكثير من القواعد حتى تكون الفتوى صحيحة وهادفة ولها وظيفة محددة للرد على حاجة بعينها. ومن تلك الشروط أنه لا يجوز التدخل في الفقه من أطراف لا صلة لها به. كذلك غير مستحسن أن يتدخل جاهل في العلم في المسائل العلمية ويبدأ بإصدار فتاوى في حقول الفيزياء والطب والكيمياء وغيرها من دون أن يكون له صلة معرفية (تخصصية) بقواعد العلم وشروطه. فالمستحسن ترك العلم لأهله وأصحابه كما هو شأن الفقه في أصوله وفروعه.
المشرّعون أكدوا دائماً أن العقل تابع للنقل ولكن من شروطه ودلالاته أن يكون العالم على معرفة بينة بقواعد العلم والعقل وإلا تحولت «الفتوى» إلى كلام يغرف من فضاء من دون وظيفة أو دراية. فالعلم الشرعي هو ما ينبني عليه عمل وغير ذلك يصبح للترفيه والسخرية والشماتة وإضاعة الوقت وخارج شروط الفقه وأصوله وأصول العلم وقواعده.
لذلك حرص المشرّعون على واجب أخذ العلم من أصحابه والفقه من أهله حتى لا تختلط أصول الفقه بقواعد العلم (العقل) وتخرج الفتاوى عن سكتها وتتحول إلى كلام يستدرج المهانة والمذلة والشماتة والسخرية من المسلمين. فكل أصل علمي يجب أن يجري العمل به على مجرى العادة بشرط أن تكتمل به الأركان الصحيحة وإلا وجب عدم الأخذ به لأنه يفتقد الوظيفة ولا لزوم له.
وظيفة الفتوى مهمة في رأي الشارع وهي تقال لا لمجرد الكلام وإنما لأنها ترد على حاجة عملية. والعلم العملي الذي يؤدي فائدته للجمهور لا يتعارض مع النقل لأنه أساساً اكتسب شرعيته من أصحابه وأهله بسبب تعاضده مع أصول الشرع. وغير ذلك تصبح «فتاوى» الفضائيات والإنترنت التي تتطرق يمنة ويسرى إلى كل المسائل مجرد كلام هوائي فارغ القصد منه كسب الشهرة وتعريض المسلمين للبهدلة والإهانة والسخرية والشماتة.
مقدمات الإمام الشاطبي
في القرن الثامن للهجرة قام الإمام الشاطبي (أبو اسحق) بوضع كتاب «الموافقات في أصول الشريعة» أسس فيه مجموعة شروط للفتاوى محاولاً الجمع بين المذهبين المالكي والحنفي (أبوحنيفة) مشيراً إلى وظيفة الشريعة (مقاصدها) وغاياتها الكبرى. وجاء كتاب الإمام الشاطبي (توفي 790 هـ/ 1388م) للرد على أسئلة بعد أن تكاثرت في زمنه فتاوى فقهاء السلاطين وطلاب الشهرة من دون حذر أو خوف من مخاطر الانزلاق إلى حقول الفقه والعلم من جهات لا علم لها بالأصول والفروع وشروط الاتصال ما بين الشريعة والأدلة العقلية والنقلية من ارتباط. فالكتاب كان له وظيفة محددة وهي اشتراط المعرفة وترسيم الحدود التي تفصل أو تربط بين قواعد الفقه وأصوله وفوائد العلم وشروطه.
حتى تكتمل أركان الفتوى لابد لها من أن تخضع للقواعد وأصولها الشرعية كذلك لابد أن يكون لها وظيفة علمية عملية ترد على حاجة الجمهور ومتطلباته. وبناء على هذا التصور وضع الإمام الشاطبي 13 قاعدة (مقدمات) للانطلاق، وهي:
المقدمة الأولى: أن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية؛ والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي.
المقدمة الثانية: أن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية، لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به.
المقدمة الثالثة: الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما أشبه ذلك، لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع. وهذا مبين في علم الكلام.
المقدمة الرابعة: كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عوناً في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية.
المقدمة الخامسة: كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعاً.
المقدمة السادسة: أن ما لا ينبني عليه عمل غير مطلوب في الشرع، وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور وإن فرض تحقيقاً.
المقدمة السابعة: كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول.
المقدمة الثامنة: العلم الذي هو العلم المعتبر شرعاً - أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق - هو العلم الباعث على العمل الذي لا يُخلّي صاحبه جارياً مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعاً أو كرهاً.
المقدمة التاسعة: من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو ملح العلم، لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه.
المقدمة العاشرة: إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً، ويتأخر العقل فيكون تابعاً، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل.
المقدمة الحادية عشرة: لما ثبت أن العلم المعتبر شرعاً هو ما ينبني عليه عمل، صار ذلك منحصراً فيما دلت عليه الأدلة الشرعية، فما اقتضته فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة.
المقدمة الثانية عشرة: من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام. وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئاً، ثم علمه وبصره، وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا.
المقدمة الثالثة عشرة: كل أصل علمي يتخذ إماماً في العمل فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط، أولاً، فإن جرى فذلك الأصل صحيح، وإلا فلا.
لماذا لا يأخذ «فقهاء» الفضائيات والإنترنت بتلك القواعد ويعتمدوا تلك المقدمات قبل الانزلاق في علوم نقلية وعقلية لا علم لهم بها ولا دراية. فالفتوى سلاح يمكن أن يفيد المسلمين إذا كانت لها وظيفة وغاية وإلا تحولت إلى واسطة للتجريح والإهانة والبهدلة والسخرية والشماتة من الإسلام ومقاصده الشرعية الكبرى.
اعتبر الإمام الشاطبي في «الموافقات» أن أصول الفقه قطعية وأدلة أصول الفقه قطعية، كذلك اعتبر أن الأدلة السمعية لا تفيد القطع بآحادها بل باجتماعها، وأن كل مسألة لا ينبني عليها فروع فقهية فوضعها في أصول الفقه عارية، وأن الاشتغال بالمباحث النظرية التي ليس لها ثمرة عملية مذموم شرعاً، وان التعمق في التعاريف والأدلة والبعد بهما عن مدارك الجمهور بدعة, وإنما فضل العلم لكونه وسيلة إلى العمل، وإنما يكون العلم باعثاً على العمل إذا صار للنفس وصفاً وخلقاً، وخذ من العلم لبه ولا تستكثر من ملحه وإياك وأغاليطه، والعقل تابع للنقل في الأحكام الشرعية، وأنه لابد للعلم من معلم ولابد في المعلم أن يكون متحققاً بالعلم، وأن كل أصل لا يستقيم مع الأصول الشرعية أو القواعد العقلية لا يعتمد عليه.
13 مقدمة وضعها الإمام الشاطبي للتأكيد على شروط الفتوى وعدم تعارضها مع الأصول الشرعية والقواعد العقلية، لأن الاجتهاد ليس سلعة تصدر للسوق من دون وظيفة عملية ولا مصدراً للارتزاق أو الشهرة على حساب ذم المسلمين وبهدلة الإسلام وتعريض المؤمنين للشماتة والسخرية.
في صحيح البخاري روي عن الرسول (ص) حديث طويل انتهى بقوله «فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم، فيَضلّون ويُضلون». وهذا الصنف من الجهلة (فقهاء الإنترنت) لا وظيفة له سوى إهانة الإسلام ودفع الناس إلى كراهية المسلمين حتى تكون نهايته كبدايته «إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2912 - الخميس 26 أغسطس 2010م الموافق 16 رمضان 1431هـ
حب الوطن
على جميع الوعاظ فى البحرين التركيز على حب الوطن صدقونى ليس هناك تسامح مثالي مثلما يحدث فى بلادنا ونحن جميعا متعاضدون شعبا وحكومة وعلى أصحاب الأفكار المدمرة الرجوع للحق والصواب لأجل ديرتنا الحبيبة .