لم يكن هذا الفصل الاستهلالي للكتاب مجرد خطوة نحو استكمال البحث والتنقيب في قرنين من التجارب الفاشلة كما قد يتبادر إلى الذهن، بل كان منذ البداية منطلق الفرضية الأساسية التي سيدور ويتجه البحث في الفصول التالية نحو إقرارها: فرضية أن سقوط وفشل مشروعات «التحديث»، يكمن في التحالف غير المقدس بين ما يسميها الديموقراطيات الغربية والحركات الأصولية، من دون تعمق في طبيعة هذه العلاقة، وهل كانت «تحالفاً» بين طرفين، أم «استخدام» طرف لطرف آخر. أم هي بعبارة أوضح نتاج مصلحة مشتركة بين الغزاة وقوى التبعية والتخلف. يقرر الباحث أن هذا الذي يسميه تحالفاً جاء نتيجة «قلة إدراك» الغرب أو «سوء تقدير»! والسؤال هو: هل كان الأمر كذلك أم هو أذكى قرار استراتيجي يمكن أن يتخذه غازٍ من الغزاة؟ وهل يمكننا تصور خلاف ذلك، أي تصور حدوث تحالف بين ما يسميها «الديموقراطيات الغربية» وحركات التحرر والاستقلال والتحديث العربية من دون أن نكون قذفنا أنفسنا في فنتازيا من فانتازيات التفكير الرغائبي؟
بعد ذلك جاء بحث تجربة محمد علي في مصر، وتحليل وجهات النظر الشائعة في إخفاقها، بين من يرجح العناصر الداخلية، ومن يرجح العناصر الخارجية، وصولاً إلى إرجاع الباحث سبب الإخفاق إلى سوء الحظ :»كان من سوء حظ محمد علي ومصر والوطن العربي أن تجارب التحديث والاستقلال ترافقت مع صعود أوروبي نحو الزعامة العالمية»، وإلى «الخطوط الحمراء التي وضعتها القوى الأوروبية» ومن هنا «دفع محمد علي ثمناً فادحاً حين أهمل هذه الخطوط الحمراء». مع ملاحظة الباحث أنه «كان في وسع القوى المحلية التمتع بقدر من حرية الحركة بشرط ألا تتخطى الخطوط الحمراء»! ولا نعرف كيف يمكن «التمتع بحرية الحركة» في عالم محاصر بالقضبان ومدافع الأساطيل من كل الجهات، من الشرق والغرب، من دون أن يقاوم هذا العالم ويتجاوز خطوط الغرب الحمراء؟
ثم جاء بعد ذلك فصل بحث فيه تحت عنوان «في قلب الإعصار»، ظهور ما سماها اللبرالية العربية والحركات القومية والإسلامية والماركسية بعد الانهيار العثماني والاجتياح الغربي. وحلل فيه باختصار المشكلات التي واجهت كل حركة من هذه الحركات. فمشكلة الليبرالية وسبب فشلها وتآكلها أنها تستمد إلهامها من الغرب من جهة ولكنها تجد نفسها في مواجهة «حداثته» الثانية، أي سطوته الاستعمارية، ومشكلة الحركات القومية أنها استلهمت القوى القومية الألمانية والإيطالية بسبب طريقة تعاطي الغرب مع العرب، وهو ما قادها إلى أشكال من أنظمة الحكم المستبدة، وأخيراً جاء صعود الحركات الإسلامية بسبب تآكل اللبرالية وضعف الحركة القومية والماركسية. وهي حركات كما يرى الكاتب مختلفة عن حركات إسلامية ظهرت في عصر النهضة، فهي مصابة بتشوهات تتولد عنها حركات متطرفة، من دون أن يعلل سبب الاختلاف.
الفصل الرابع، وعنوانه «الصراع العربي ـ الإسرائيلي، يكاد يكون أضعف فصول هذا الكتاب، ليس بسبب إغفاله المصادر الهائلة عن نشوء الحركة الصهيونية الغربية في سياق حركة الاستعمار الغربي فقط، بل وبسبب قفزه مباشرة وبلا مبرر إلى ما سماها «مقدمة تاريخية ضرورية لفهم جانب سايكولوجي مهم من جوانب الصراع العربي ـ الإسرائيلي»، بعد أن أطلق على هذا الصراع تعبير «خناقة» تاريخية! وقادته هذه القفزة إلى التغميس خارج الصحن بشكل كامل، فاستدخل إلى موضوع هذا الصراع، وليد حركة الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر، العلاقات اليهودية ـ الإسلامية منذ ظهور الإسلام. صحيح أن هناك علاقة بين اليهودية والصهيونية الغربية المنطلق، ولكن إطار هذه العلاقة لا يمتد إلى ما هو أبعد من بدايات التحفز الغربي، والبريطاني بخاصة، لاحتلال الوطن العربي. وبدل أن يذهب الباحث بمنهجه «المتعدد الرؤوس» إلى قلب الصراع، أي إلى ولادة مشروعين لاستعمار فلسطين على يد الفرنسيين والبريطانيين منذ مطلع القرن التاسع عشر لإقامة دولة يهودية، يرجع إلى تقديم صورة عن العلاقة بين الدين اليهودي والإسلامي قبل ألف عام ونصف تقريباً، فيفقد الصراع مع الصهيونية طابعه السياسي، ويلصق به طابعاً دينياً يرجع إلى عصور قديمة! ويصل إلى القول: «حين يرى العربي ما فعله اليهود في فلسطين حين طردوا أكثر من مليون عربي من أرضهم بالقوة، وتحالفوا ضد العرب مع القوى الغربية التي غزت المنطقة، يخرج السؤال الخطير: ماذا فعلت الثقافة الإسلامية باليهود كي يعاملوها على هذا النحو؟».
هذه العبارة، لا تتجاهل فقط طبيعة الصراع مع التحالف الغربي، وعلى رأسه بريطانيا التي احتلت فلسطين في العام 1917 احتلالاً وحشياً وصفه بعض البريطانيين بأنه يفوق الوحشية النازية، وأنشأت، بعد تدمير مقومات المجتمع الفلسطيني، كياناً استعمارياً من يهود جلبتهم من مختلف بقاع العالم، بل وتوحي بعبارة «تحالفوا ضد العرب مع القوى الغربية» أن سكان المستعمرات هؤلاء هم من سكان المنطقة. وسيتأكد هذا الإيحاء القائم على تصور مغلوط، حين يصل الباحث إلى تقرير أن «العرب واليهود يشعرون معاً بأنهم كانوا ضحايا الأوربيين؛ العرب بسبب الاستعمار الأوروبي، واليهود بسبب اللاسامية الأوروبية. وهذه المعاناة المشتركة كان يفترض أن تدفع إلى قيام أوثق التحالفات بين الطرفين، لكن التاريخ لم يسر على هذا النحو، ويتعين على اليهود أن يسألوا أنفسهم لماذا؟» هذا الافتراض الخيالي مؤسس على أن تاريخ اليهود في أوروبا وتاريخ العرب واحد متلازم، وعلى تجاهل مطبق لتاريخ نشوء الحركة الصهيونية في قلب حركة الاستعمار الغربي، وعلى افتراض أن الغزاة الصهاينة لم يكونوا غزاة بل من سكان المنطقة نفسها، وعلى مصادقة ضمنية على الخطاب الصهيوني المضلل الذي يزعم أن اليهود «انتفضوا وحرروا أرض إسرائيل» من الاستعمار البريطاني والعرب هم الذين تحالفوا مع البريطانيين! وينسجم مع تحليلات خرقاء صدرت عن شيوعيين فريدين من نوعهم، وضعوا كفاح الفلسطيني من أجل وطنه وراء ظهورهم، واستبسلوا في الدفاع عن حق الاستعمار الصهيوني في إقامة دولة على الأرض الفلسطينية. ونقول إن هؤلاء فريدين من نوعهم؛ لأننا لم نعرف شيوعياً من أي جنسية كانت تخلى عن وطنه لا في الشرق ولا في الغرب، بل كانوا دائماً في طليعة قوى مقاومة الاستعمار، إلا غالبية شيوعي البلدان العربية، والفلسطينيين منهم بخاصة.
بعد هذا الفصل الضعيف، نهجاً وفرضيات، تجيء فصول أكثر دقة، مثل الفصل الخامس المعنون «أميركا والنفط وإسرائيل». وهو فصل يضيء بالوقائع والمصادر جانباً مهماً من جوانب دراما استيلاء أميركا على تركة الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي العربية. ويذكر الباحث في هذا الفصل استناداً إلى الوثائق ما ينقض تصوراته هو في الفصل الرابع عن «الخناقة» العربية ـ الإسرائيلية، حين يقتطف نصاً من تصريح للرئيس الأميركي «هاري ترومان» في مؤتمر بوتسدام (16 أغسطس/ آب 1945) يقول فيه: «إننا نريد أن نسمح لأكبر عدد ممكن من اليهود بالهجرة إلى فلسطين على رغم أن ذلك يجب أن يتم بالطرق الدبلوماسية؛ لأننا لا نرغب في إرسال نصف مليون جندي أميركي إلى فلسطين». ويضيف الباحث استناداً إلى وثائق الخارجية الأميركية: «انخرطت إدارة ترومان فعلاً في وضع الخطط لاحتمال التدخل عسكرياً في فلسطين، في حال فشلت موازين القوى المحلية في فلسطين في حسم عملية إقامة الدولة اليهودية». ثم يلخص أمر التدخل الأميركي الذي توج بحرب العام 1967، وتواصل وصولاً إلى حرب العام 2006 على المقاومة في لبنان، بالقول إنه «تعين على أميركا طيلة الفترة الممتدة من 1948 إلى 1956 تكييف سياستها مع هاتين الحقيقتين: استكمال وراثة نظام الشرق الأوسط عبر طرد بريطانيا وفرنسا منه، والعمل في الوقت نفسه على عدم تأثر انتقال الوراثة بالمواجهة التي بدأت بينها وبين الاتحاد السوفياتي.
ثم يواصل تفحص هذه العملية، عملية الوراثة، في الفصل السادس تحت عنوان «أميركا والقومية العربية»، وهي المرحلة التي آن فيها أوان المواجهة مع صعود المد القومي ممثلاً بنظام جمال عبدالناصر، وتجميع الولايات المتحدة لقوى محلية ضد هذا المد تحت شعارات «إسلامية». ويتناول الباحث في الفصل السابع، «حقبة ما بعد عبدالناصر»، أسباب إخفاق هذه التجربة، ويرجعها إلى عدة عناصر، منها فشل المشروع القومي في تحقيق الوحدة والاستقلال الذي كان إطاره النظري محلياً ودولياً خلق فضاء مستقلاً لدول العالم الثالث (مؤتمر باندونج 1955)، ومثل نمو الطبقة الرأسمالية حتى في ظل إصلاحات عبدالناصر رغم خسارتها للنفوذ السياسي، ومثل الصدام مع الأميركان، ومثل الاعتماد على جهاز الدولة بدل المشاركة الشعبية في التنمية. ويؤكد الباحث «كان عبدالناصر إصلاحياً تحديثياً، يحاول الإقلاع الاقتصادي من الداخل، والاستقلال السياسي من الخارج، وبهذا وحده كما يقول الباحث «كان يشكل تهديداً للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط».
إلا أنه مع تقريره لهذه الحقيقة التاريخية، لا يتساءل عن مغزى وقوف أميركا ضد الإصلاح والتحديث، أي معاداة أي مشروع تحرري مهما كانت أيديولوجية أصحابه، وهو مغزى ينسف من الأساس ادعاءات «التحديث» و»الديمقراطية» و»الحرية» التي يزعم الغرب، وكأنه جمعية خيرية، نقلها إلى العرب والمسلمين، بل يسلم كما يبدو بأن هذا الغرب الاستعماري، كما يقول تحليله ذاته، يريد تحديث العالم العربي وعولمته، فيتحدث عن تكثف ما يسميها «الأخطاء» التاريخية للولايات المتحدة، فواشنطن كما يرى «لم تدرك أو لم ترد أن تدرك، أن ضربها الحركة الناصرية كان سيفضي إلى ضرب الجسم الأساس لحركة التحديث في الشرق العربي. وكان هم واشنطن فرز القوى في المنطقة استناداً إلى المنظور الضيق للحرب الباردة، ومن هذا المنظور، كان عبدالناصر عدواً. أما الأصدقاء فلم يكونوا سوى الحركات الأصولية نفسها التي ستعلن الحرب على الولايات المتحدة في أواخر التسعينيات». ولا ندري على أية واقعة استند الباحث في القطع بأن هذه الحركات التي «أستخدمت» طيلة أكثر من نصف قرن لترحيل ساحة الصراع من الوطن العربي إلى فضاءات بعيدة عنه، «أعلنت الحرب على الولايات المتحدة في أواخر التسعينيات»، اللهم إلا إذا كانت مستنداته بيانات الفضائيات ومواقع على شبكة الإنترنت. ألم يلاحظ أن هذه الحركات، بعد انتهاء المعركة المفتعلة أساساً ضد الشيوعية، مازالت تجري في المجرى القديم نفسه، أي التصدي لحركات المقاومة الإسلامية والقومية الراهنة، وإثارة النزعات الطائفية، وزعزعة أوضاع بعض حلفاء الغرب لإجبارهم على المرور غنائم تحت قوس النصر الصهيوني أو فقدانهم عروشهم؟ وهل كانت الحرب الباردة إلا ذريعة؟
المغزى الحقيقي للوقوف ضد الإصلاح والتحديث وحركة التحرر لا تفسره ترجمة السياسات الأميركية إلى ما يسمى «الأخطاء»، أو «عدم إدراك» أن ضرب الناصرية يعني ضرب الجسم الأساسي لحركة التحديث في الشرق العربي، ولا القول إن لعب ورقة الإسلام السياسي كسلاح في الحرب الباردة كان «حلفاً مهلكاً»، بل تفسره الوقائع التي جهد الباحث في تجميعها، أي وقائع مد الهيمنة الأميركية لوراثة النفوذ الاستعماري. وفي سبيل هذا لا نعتقد أن نوعية السلاح المستخدم يسبب قلقاً لمخططي هذه السياسات (سواء كان ما يسمونها الأصولية الإسلامية أو الليبرالية أو اليسارية أو الصهيونية كما هو الحال الآن)، ولا يقلقهم أن تحدث الشرق العربي أو عاد إلى العصور الحجرية، بل هم أشد ميلاً إلى إبادة سكانه بقنابلهم النووية كما يستشف من آخر تصريحاتهم.
إن نظرة إلى «مشروع الشرق الأوسط الجديد» الذي لم يعد سراً لا علاقة له بالحداثة المزعومة ولا الديمقراطية ولا الحرية، بل بخريطة جديدة ترسم، يتم فيها تفتيت الشرق العربي وإعادته إلى عصر تسوده الطوائف والقبائل والكيانات العرقية والمذهبية؛ لأن هذا هو الضمان الوحيد للهيمنة الغربية على شرقنا. ومنذ أواخر التسعينيات، أليس هذا هو المجرى ذاته الذي تصب فيه دعاوى وعمليات «الحلفاء» المهلكين الذين جمعوهم في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، ثم تم توزيعهم بمهمات جديدة في مطلع القرن الحادي والعشرين؟
وحتى لو أخذنا مسألة هؤلاء «الحلفاء المهلكين» مأخذ المسألة الخلافية ولم نقطع بشيء، أليس لاعب الشطرنج الرديء هو أفضل أداة بيد خصمه الماهر في الجهة المقابلة من رقعة الشطرنج؟
في الختام يمكن القول إن موضوع كتاب الصديق الباحث سعد محيو في غاية الأهمية، ولكن مقاربته كانت مفككة إلى حد بالغ لا تقرأ الظواهر التاريخية في سياقها وترابطها، وكانت استنتاجاته تنقضها في أحيان كثيرة ما تشير إليه الوقائع التي جهد في تجميعها، ويمكن أن نرجع السبب إلى افتراضاته المسبقة، مثل أن الغرب «لا يدرك» و»ارتكب أخطاءً» وما إلى ذلك من تبريرات نصادفها في أوراق أكثر من باحث غربي يحاول تجاهل أن المقاومة العربية هي التي تقف وراء ما يسمونه «إخفاقاً» أو ما يرجعونه إلى «عدم إدراك الغرب». الغرب بنظمه السياسية والمخابراتية وشركاته يدرك تماما ما يفعل، واستراتيجياته واضحة، وكذلك أهدافه. وعطبنا الداخلي أننا أسرى صورتنا التي يرسمها لنا، وأسرى إعلام سياسي وثقافي غربي مضلل، والتضليل جزء من استراتيجيته وليس ناجماً عن خطأ أو عدم إدراك، أو قلة معلومات كما يشاع.
العدد 2911 - الأربعاء 25 أغسطس 2010م الموافق 15 رمضان 1431هـ