الأكيد أن العراقيين يستحقون حُكما غير حُكمِ صدام حسين. وذاكرة أنصع من أخرى مكنوزة بحروب جوّالة مع الجيران، وحُرّيات سياسية وشخصية ناشفة. وبالقطع فإنهم لا يستحقّون أن يُحْكَمُوا بالفكر الخارجي التكفيري الأرعن، الذي يخطو برجله في الدم صباح مساء.
لكنهم أيضا (وهو الأهم) لا يستحقّون كَنفا أميركيا بعَضُديه وصدره، ولا مُباهَلَة (قهرية) بالنّفْسِ الأميركية ضد الآخرين. لأن في ذلك سيرٌ بعكس الأشياء ومنطقها. فالوثوق به كمُجير أم عامر.
قبل أقلّ من أسبوع مرّت ذكرى سقوط بغداد (9 أبريل/ نيسان). ملامح الذكرى متعددة في مباهجها -إن وُجِدَت- ومآسيها. حكاياتٌ تُقطّع نِيَاطَ القلب، وتستحقّ ما يكفي من النحيب. في الأمن والسيادة والاجتماع والفساد والمصير. في كلٍّ منها حديث وقصة.
في الأمن مرّت ذكرى العام السادس على السقوط والعراقيون يرفعون المِجْلَد؛ بسبب التفجيرات الإرهابية في ضواحي مختلفة من العاصمة بغداد. من شَهِدَ مسرح الجريمة رأى أوصالا لبني البشر يتمّ مطابقتها مع الأجساد. ورأى أيتاما قضى ذووهم بالكامل وتبرّع بكفالتهم من بقي من أهل النخوة.
وفي موضوع السيادة فقد وهب الرئيس الأميركي باراك أوباما العراقيين قبل أيام تحية سياسية مختلفة. فاستعدادات حرس الشرف التي جرت في قصر السلام (وهو مقر إقامة الرئيس العراقي جلال طالباني) تمّ إلغاؤها لأن أوباما لم يأتِ لمكان الاستقبال.
ولأن أصل الزيارة -بحسب مصدر عسكري أميركي- هي «للتباحث مع قادة الجيش الأميركي في العراق حول الاستراتيجية الجديدة لإدارته، وكي يستمع إلى آراء القادة الميدانيين عن إمكان الانسحاب وفقا للجدول المنصوص عليه في الاتفاق الأمني»!.
والأكثر أن لقاء باراك أوباما مع نوري المالكي ومجلس الرئاسة العراقي جرى بعد ذلك في قصر الفاو، وهو مقر إقامة قائد القوات الأميركية الجنرال راي أوديرنو وليس في مقرّ الحكومة العراقية. وهو لقاء حصل بعد إلحاح من الجانب العراقي!.
في الحياة الاجتماعية نتحدث عن خمسة ملايين يتيم عراقي من أصل سبع وعشرين مليون إنسان. بمعنى أن 5.4 في المئة من الشعب العراقي هم أيتام. تعاظمت أعدادهم بعد الاحتلال الأميركي للعراق قبل ستة أعوام بسبب العنف والعمليات الإرهابية والحرب الطائفية.
آخر من دخل عالم اليُتم قبل أيام هو طفل عراقي نجى بأعجوبة من انفجارٍ إرهابي بشارع النواب بالكاظمية، ويبلغ من العُمر ستة أشهر شُوهد بين أحضان أمّه المُتوفّاة بسيارة مُتفحّمة في مكان الانفجار، وبجوارها زوجها الذي احترق جسده وهو الآن في حالة حرجة.
في أحوال الناس الأخرى فقد بلَغ عدد النساء الُمرمّلات مليوني امرأة. لكن الأكثر إيلاما هو ما نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية عن وجود 12 عصابة تعمل في العراق، مهمّتها اختطاف (أو شراء) الأطفال وبيعهم بمبلغ 200 - 400 جنيه إسترليني لدول مثل البرتغال والسويد وآيرلندا وبريطانيا وسويسرا وتركيا والأردن وسوريا بغرض التبنّي أو نقل الأعضاء أو الاستغلال الجنسي.
أما في أحوال الفساد فنقرأ أن وزارة الدفاع تعاقدت مع شركة عراقية أسست في 1 يناير/ كانون الثاني 2004 برأسمال قدره ثلاثة ملايين دينار، ووقعت عقودا معها بمبلغ مليار و126 مليون دولار تمّ دفعها نقدا من دون كفالات وهي موزعة على خمسة وثلاثين شيكا وُضِعَت كلها لحساب شخص واحد.
ثُم حُوّل مبلغ بقيمة 481 مليون دولار إلى حسابه الخاص في بنك الإسكان الأردني ثم مبلغ 100 مليون دولار نقدا إلى ذات البنك والشخص، ومبلغ آخر بقيمة 480 مليون دولار لشخص قريب، ومنه إلى إليه مرة أخرى. مجموع المبالغ هي مليار وستين مليون دولار! لا أحد يدري أين ذهبت ما دام الأميركيون مُتورطين فيها.
في وزارة الكهرباء تمّ توقيع عقود بما يزيد على مليار دولار لمحطات توليد لم تنتج 10 في المئة مما كان مطلوبا منها. كان يفترض أن تبدأ الإنتاج في صيف العام 2004، إلا أنه وحتى صيف 2008 لم تنتج. (راجع الحلقة الثالثة من لقاء أحمد الجلبي مع صحيفة «الحياة» اللندنية بتاريخ 23 مارس/ آذار 2009).
في مصير العراق نتحدث عن ماضٍ يُلْعَنُ، لشرْعَنَةِ حاضرٍ يُجَهّز لمستقبل سيُنهب. دخل الأميركيون بغداد وحلّو الجيش عن بكرة أبيه لتنكشف العاصمة والمدن العراقية أمام المخاطر الأمنية الجنائية والإقليمية والدولية، في الوقت الذي كان فيه الفيلقين العراقيين الأول والخامس موجودَيْن في كركوك والموصل، وكان يُمكن أن يتمّ استدعائها للحفاظ على الأمن.
في المدى القريب على الحكومة العراقية أن تدفع مبلغ التعويضات التي أقرّتها المحاكم الأميركية لصالح مواطنين أميركيين. وهو ما أشار إليه بشكل هلامي البند (ب) من المادة السادسة والعشرين من الاتفاق الأمني بين العراق والولايات المتحدة.
من المفارقات العجيبة فإن العراق مُطالَبٌ اليوم بأن يدفع لكل من وليام مارلون وديفيد ولابتلي مبلغ مئة وخمسين مليون دولار بسبب سجنهما لمدة 126 يوما بعد دخولهما العراق بطريقة غير شرعية في 16 مارس من العام 1995.
وأن يدفع لسبعة عشر طيارا أميركيا أُسقِطَت طائراتهم فوق العراق خلال حرب الخليج الثانية (معركة تحرير الكويت) مبلغ 959 مليون دولار نظير احتجازهم مدة خمس وأربعين يوما كأسرى حرب.
وأن يدفع لشركة أميركية مُتخصصة في صناعة أفران للأطراف الصناعية مبلغ خمسين مليون دولار، لأنها ادّعت أن نظام صدام حسين استخدمها لتصنيع أسلحة نووية طبقا لتقرير مُفتشي الأمم المتحدة، الأمر الذي أضرّ بسمعة الشركة.
ولكن كيف سيُقاضي العراق وزارة الدفاع الأميركية عندما سمحت بدخول العابثين بعد سقوط بغداد إلى منشأة التويثة النووية والعبث بـ 1.7 طن من اليورانيوم منخفض التخصيب، وما يقرب من 1000 مصدر ذي قدرات إشعاعية عالية، ونظائر مُشِعّة لعناصر الكوبلت والسيسيوم والأسترنتيوم.
لقد أدّى العبث بحاويات المنشأة والبراميل (كل برميل يحوي 300 - 400 كغم من الكعكة الصفراء) المُخصّصة بتغليف المواد النووية إلى سكب العديد من المواد الخطيرة في النهر ومياه الصرف الصحي، واستخدام تلك البراميل في مشاغل المعيشة اليومية. (راجع ورقة كاظم المقدادي في هذا المجال).
في المنطقة المحيطة بالمنشأة سجّلت تقارير البيئة أن الدونمات الزراعية وحظائر الماشية والقاطنين في تلك المنطقة قد تأثرت بتلك الإشعاعات. وأن أمراض السرطان قد ارتفعت بمنسوبات عالية جدا.
اليوم نستعيد الذكرى بمأساتها من دون أن نترحّم على من لا يليقون بحكم العراق. لأن ما هو فيه اليوم لا يدعو لأن نتمنى أن يتولّى أمره من يزيد جرحه وألمه. فالعراق بعمقه الحضاري الضارب يجب أن يهنأ بلا احتلال أو وصاية. وأن يعيد إنتاج دولته كما يجب.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2411 - الأحد 12 أبريل 2009م الموافق 16 ربيع الثاني 1430هـ