العدد 2411 - الأحد 12 أبريل 2009م الموافق 16 ربيع الثاني 1430هـ

لبنان... «خطأ جغرافي»!

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

«لبنان ليس ورقة للتفاوض». هذه العبارة يرددها كل المسئولين الأوروبيين والأميركيين خلال الاتصالات المباشرة أو في اللقاءات الجانبية مع الهيئات أو الشخصيات السياسية اللبنانية.

الكلام عن «البيع» و«الشراء» و«التفويض» و«التوكيل» تحوّل إلى هاجس يومي يؤرق الكثير من القوى والمراجع اللبنانية. والكلام لا يعبر عن مخاوف زائفة بل عن قناعات تعززت حاليا بناء على تجارب سابقة.

في العام 1974 مثلا اضطرت إدارة ريتشارد نيكسون إلى التفاوض مع دمشق على الورقة اللبنانية حين كان وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر يقوم بجولاته المكوكية بين القاهرة وتل أبيب ودمشق لاتمام تفاهمات وقف إطلاق النار وتوقيع اتفاقات الهدنة في الجولان.

آنذاك أطلق كيسنجر تصريحه الشهير حين أعلن أن «لبنان خطأ جغرافي». لم ينتبه اللبنانيون إلى معنى التصريح وأبعاده وخلفياته. وباستثناء عميد «الكتلة الوطنية» ريمون أده جرى التعامل مع ذاك الكلام من باب السخرية أو مجرد «زلة لسان». ريمون أده سارع إلى التحذير من خطورة التصريح وذكر أنه يملك معلومات غير مؤكدة تشير إلى وجود صفقة غير رسمية تعطي لبنان «جائزة ترضية» مقابل الجولان. وطالب أده الدولة اللبنانية بالإسراع لضبط الحدود مع «إسرائيل» واستقدام قوات دولية لحماية الجنوب من الاجتياح وضمان حياده الإيجابي.

أدت تصريحات أده الواضحة والشفافة إلى ردود فعل سلبيه من معظم القوى السياسية اللبنانية ووجهت ضده حملة إعلامية اتهمته بالمبالغة والتضخيم وإثارة المخاوف والقلق وزعزعة الاستقرار وتهريب الاستثمارات وغيرها من اتهامات وصل بعضها إلى حد التخوين.

بعد سنة من كلام أده بدأت إرهاصات الأزمة الداخلية تتطور سياسيا إلى أن بلغت طور العنف الأهلي ما أدى إلى انهيار الدولة وتفكك بلاد الأرز إلى مجموعات أمنية تتقاتل لفرض نفوذها في دوائر جغرافية (طائفية ومذهبية). وبعد سنة على 13 أبريل/ نيسان وهو موعد بدء انفجار الحروب الأهلية دخلت «قوات الردع العربية» لبنان في العام 1976 تحت غطاء عربي- دولي لتحقيق مهمات محددة وهي: وقف المجازر وضبط الأمن وإعادة الإعمار وبناء الدولة.

نجحت قوات الردع في وقف الحرب لكنها لم تتوفق في إنهاء الأزمة التي أخذت تتدحرج وتتوسع سياسيا حين اجتاحت «إسرائيل» الجنوب في العام 1978 وأسست «دويلة» في شريط القرى الحدودية بذريعة حماية «أمن الجليل». وهكذا اكتشف اللبنانيون أن كلام كيسنجر لم يكن «زلة لسان» وما قاله أده -الذي تعرض لمحاولة اغتيال واضطر لمغادرة لبنان واللجوء السياسي إلى فرنسا- كان دقيقا في موضعه وواقعيا في تحذيراته.

هذه التجربة التي عاشها اللبنانيون كانت قاسية وطويلة إذ بدأت طلائعها في العام 1974 ولم تنته فصولها إلا في العام 2005. وما كادت الفصول الأولى تغيب عن الشاشة السياسية حتى عاد الكتاب ينفتح على ملاحق إضافية تعيد التذكير بتلك التجربة المرة. فالأجواء الدولية تشير إلى نوع من الانفتاح الأميركي على دمشق لا بقصد إعادة العلاقات الدبلوماسية إلى مجراها الطبيعي وإنما باتجاه التفاهم على ملفات إقليمية وأمنية ترتب الأوراق وفق جدول يضع لبنان في درجة متدنية من الاهتمام الدولي.

هذه المخاوف ليست مجرد هواجس بقدر ما هي مشاعر تأسست على تجارب سابقة في لعبة الدول. فالدول الكبرى التي تؤكد أن لبنان ليس ورقة للتفاوض وأنها حريصة على وحدته واستقلاله وسيادته لا تشير في تطميناتها إلى الآليات والوسائل والضمانات.

عدم وجود حصانة تلزم الدول الكبرى بوعودها الكلامية يفتح الباب للتأويل والتفسير في حال تبدلت الظروف واقتضت حاجة المصلحة للتفاوض على لبنان. فالمصلحة الكبرى تقتضي أحيانا التضحية بالورقة الصغيرة حتى تضمن الدول أمن الورقة الكبيرة. وهذا الأمر قد يضغط على واشنطن مثلا لإعادة النظر بمجموعة أولويات تفاضل بين أمن «إسرائيل» أو «سيادة» لبنان. والمفاضلة الأميركية بين الورقتين تتجه دائما نحو «إسرائيل». وهذا ما أشار إليه مرارا الرئيس باراك أوباما في تصريحاته الخاصة بشئون «الشرق الأوسط». فالإدارة لم تتردد في تأكيد حرصها التقليدي على حماية «إسرائيل» وضمان أمنها من الصواريخ القريبة والبعيدة ما يعني أن واشنطن مستعدة للتفاوض تحت هذا السقف الثابت.


مأزق التسوية

إلى أمن «إسرائيل» هناك الحرص الأميركي التقليدي على عدم الضغط على تل أبيب لتنفيذ التزاماتها وتعهداتها بذريعة أن القرارات الدولية لا تعمل لمصلحتها في اعتبار أنها الطرف المحتل والجهة التي يجب أن تنسحب من الجولان والضفة والقدس لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام. فالسلام بالنسبة لدولة الاحتلال يعادل الانسحاب من الأرض وهذا يتطلب منها إعادة الجولان والقدس والضفة وما تبقى من أراضٍ في غزة ولبنان إلى أصحابها... الأمر الذي ترفضه وتتحايل عليه.

الإدارة الأميركية تدرك أين الخلل وتعلم مكان المشكلة وهي على اطلاع على أوراق الملف والطرف الذي يعطل كل الحلول والاتفاقات والتفاهمات. وإدارة أوباما ليست بعيدة عن هذه الأجواء حين أعرب الرئيس في تصريحات متتالية عن قناعته بالسلام القائم على حل الدولتين. ولكن أوباما يفهم أيضا أن عملية التسوية تحتاج إلى طرفين لتنجح وهذا يتطلب الضغط بقوة على حكومة تل أبيب لتقبل شروط السلام.

حتى الآن تبدو إدارة واشنطن ليست في موقع قوي يسمح لها بإكراه حليفها الاستراتيجي على القبول بمبادرة السلام العربية والانسحاب من الأراضي المحتلة وتفكيك المستوطنات وبناء تسوية تقوم على معادلة الدولتين والتعايش مع المحيط والتساكن مع الجيران. وبما أن وضع واشنطن في دائرة «الشرق الأوسط» تعرض للاهتزاز في عهد الرئيس جورج بوش فهناك ترجيحات تشير إلى احتمال لجوء إدارة أوباما إلى سياسة التأجيل والمماطلة والتسويف والضغط باتجاه تجميد الحل. والتجميد يعني إبقاء الأمور كما هي من دون تعديل: لا دولة فلسطينية ولا انسحاب من الجولان ولا سلام.

المنطقة إذا ذاهبة في حدها الأدنى إلى تسوية مؤقتة. وفي حدها الأقصى هناك احتمالات مفتوحة على أزمة متدحرجة تقودها حكومة أقصى التطرف في تل أبيب على قاعدة «تهويد» القدس والحفاظ على «يهودية» الدولة.

الحد الأدنى يقتضى تسوية مؤقتة تحافظ على الوضع كما هو من دون تعديل مقابل ضمانات إقليمية تمنع تعريض أمن «إسرائيل» للخطر. والحد الأقصى يتطلب إقفال أبواب التسوية المؤقتة وفتح الأزمة على نوافذ جديدة قد تقوض حال الاستقرار في فلسطين المحتلة. وبين الحدين الأدنى والأقصى هناك احتمال ثالث يؤشر إلى اتجاه يطالب بعقد صفقات مباشرة وغير مباشرة على مسارات ثنائية تعرقل مبادرة السلام العربية وتعطل فكرة الدولتين وتزعزع استقرار السلطة الفلسطينية.

الاحتمال الثالث يفتح المجال للتفاوض على الورقة اللبنانية. وهذا بالضبط ما يرفع درجة قلق الكثير من المراجع والشخصيات السياسية المعنية بالسيادة والاستقلال والوحدة وترسيم الحدود واستعادة مزارع شبعا ومرتفعات كفرشوبا. فكل هذه المطالب والحقوق تتحول في لحظات زمنية مغايرة إلى شعارات لا تلقى تلك الضمانات الدولية لحمايتها والدفاع عنها.

تجربة كيسنجر مع بلاد الأرز لاتزال حاضرة في عقول ذاك الجيل الذي رافق تحركات وجولات المبعوث الأميركي المكوكية في المنطقة بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. فالوزير في عهد نيكسون توصل إلى تفاهمات اقتضت بتجميد جبهة الجولان ونقلها إلى ساحة لبنان في اعتبار أن بلاد الأرز «خطأ جغرافي».

الجغرافيا ثابتة أو لا تتغير بسرعة كما هو حال السياسة... ولكن «الخطأ» قد يتكرر إذا كان له وظيفة كبيرة ويخدم المصلحة في إطار لعبة الدول.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2411 - الأحد 12 أبريل 2009م الموافق 16 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً