عزمي عاشور - كاتب مصري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
بعدما كانت أوروبا في الماضي مسرحا لحربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين راح ضحيتهما الملايين من الأبرياء، أصبحت الآن أرضا للتعاون والتكامل فيما بين دولها، فقد تعلمت دول هذه القارة العجوز المتعددة اثنيا ولغويا الدرس جيدا في أن لغة المصالح هي خير رابط بين شعوبها، وان وجود التنظيمات الدولية ليس كافيا في حد ذاته لمنع الصدام، فوجود عصبة الأمم، على سبيل المثال، بمبادئها السامية لم يحل دون قيام الحرب العالمية الثانية، ومن ثم كان البحث عن شكل مؤسس يشكل حائط صد يمنع اندلاع الحروب بقدر الإمكان.
وقد وجد المخلصون من الساسة الأوروبيين ضالتهم في إقامة اتحاد تعاون تكاملي يرتبط بالواقع أكثر مما يرتبط بالأفكار المثالية، فجاء إنشاء الاتحاد الأوروبي بنواته الأولى في العام 1957 القائمة فلسفته بربط الدول الأوروبية فيما بينها في تفاعلات وتعاملات اقتصادية، تكون له فوائد مضاعفة تعمم على الدول التي تدخل هذا الاتحاد، واستطاعت هذه الدول على مدار الخمسين سنة الماضية أن تضع الشروط وتهيئ الظروف لانتقال الدول الأوروبية من وضعية اقتصادية وسياسية متدهورة إلى وضع أفضل لتلحق بدول هذا الاتحاد وتستفيد من نفس المزايا الاقتصادية التي سبقتها إليه هذه الدول.
وإذا كان هذا النموذج التكاملي قدم دليلاً عملياً في قدرته على منع الحروب حتى بين المختلفين دينيا واثنيا ولغويا مثل حالة الاتحاد الأوربي، إلا أنه في المقابل نجد أن غياب مثل هذا النوع من التكامل في مناطق أخرى من العالم كان سببا في قيام النزاعات، بالأخص في المنطقة العربية والقارة الإفريقية التي لم تستطع دولها بعد أن تخلق لنفسها إطاراً اقتصادياً تعاونياً وتكاملياً فيما بينها، على غرار دول الاتحاد الأوربي حتى وان كانت هناك مشاريع واتفاقيات لذلك، إلا أنها تكون على الورق ولا تمت للواقع بصلة، وفي الآونة الأخيرة برزت على سطح الأحداث توترات بين دول حوض النيل بسبب أن دول المنبع، إثيوبيا وكينيا واوغندا وتنزانيا وبروندي ورواندا، وقعت اتفاقية فيما بينهما بدون دولتي المصب مصر والسودان في أن يكون لهم الحق في إقامة مشروعات دون الرجوع إليهما، وقد يبدو هذا حقاً مشروعاً في الاستفادة من مياه النيل التي تمر بأراضيها، إلا أن عملية الانفراد بالاتفاقيات والمشاريع دون بقية دول المصب قد يكون فيه سوء نية للإضرار بمصالح هذه الدول التي ارتبطت حياتها عبر آلاف السنين بمياه النيل، الأمر الذي خلق ما يشبه الحق والميراث التاريخي في مياه النيل، ومن ثم باتت إقامة أي مشاريع من شأنها أن تؤثر حاليا أو مستقبلا على كمية المياه الذاهبة إلى دول المصب على الرغم من وجود اتفاقيات دولية تنظم العلاقة فيما بين دول حوض النيل وبالأخص اتفاقية العام 1929 والعام 1959. وعند النظر إلى الأمور بشكل واقعي بعيدا عن التفسيرات القانونية والحقوق التاريخية - التي ترى الدولة المصرية أنها مكتسبة - نطرح السؤال التالي: إذا كان نهر النيل يشكل سواء من منابعه في وسط إفريقيا أو من الهضبة الإثيوبية ومرورا بالسودان، أهمية استراتيجية للدولة المصرية بمثل هذا الشكل، فهل الدولة المصرية قامت بدورها في الحفاظ على هذه الأهمية الاستراتيجية لنهر النيل؟
لقد تعاملت الدولة المصرية على مدار الفترات الماضية مع ملف حوض النيل بنفس المنطق الذي تعاملت به في قضايا كثيرة، وشهد تراجعا لدورها فيه سواء في الساحة العربية أو في الساحة الإفريقية، إلا أن المشكلة بالنسبة لدول حوض النيل تبدو مختلفة تماما، حيث إن أي نزاع مع أي دولة قد لا يسبب أضراراً مثلما يسببه النزاع مع دول حوض النيل، فالنزاع مع دولة مجاورة نهايته قطع العلاقات، أما مع دول حوض النيل فمعناه قطع المياه، ومن هنا ليس من العيب مراجعة السياسة التي اتبعتها الدولة المصرية في الماضي، فالأمر في هذه المرة لا يقل خطورة عن الاعتداء على أراض مصرية، وهذه ليست دعوة للدخول في نزاعات بقدر ما هي دعوة لإعادة التفكير في مداخل واقعية تضمن حلولاً ترتبط بتحقيق مصالح لدول حوض النيل دون التعدي على حقوق مصر المائية في دول حوض النيل.
وفي هذا الإطار هناك ثلاثة مداخل مختلفة تشكل طريقاً مناسباً يجنب الدخول في صراعات ويعمم الاستفادة من الإمكانيات الاقتصادية الموجودة في دول حوض النيل، وهي المدخل الدولي international approach، والمدخل الإقليمي the regional approach، ثم المدخل المحليthe local approach .
وعلى الرغم من أهمية المدخل الدولي والمتمثل في جهود المنظمات الدولية كالبنك الدولي واليونسكو وغيرها من المنظمات المعنية بأزمة المياه في المنطقة، إلا أن قيمتها الأساسية تكمن في أنها مدخل مساعد للمدخلين الآخرين: الإقليمي والمحلي في أن يفعلا من قدراتهما لحل أزمتهما المالية، وعلى الرغم من أهمية المدخل المحلي والمعني بكل دولة على حدة في قدرتها على ترشيد واستخدام وسائل أفضل في تعاملها مع المياه، إلا أننا نجد أن المدخل الإقليمي هو الأقرب والأنسب في حل المشكلات المائية سواء المتعلق بها بالأمن الغذائي والندرة المائية، أو حتى المتعلق بالصراعات السياسية الناتجة عن هذا الأمر والذي عن طريقه أيضا يمكن توظيف المدخلين الآخرين الدولي والمحلي في نطاقهما. والمدخل الإقليمي المقصود هنا هو منهج الإقليمية الجديدة القائم على إقامة المناطق الاقتصادية المشتركة أو المترابطة economic package. والمبني بالأساس على هدف أساسي هو تناسي الخلافات السياسية في مقابل المغريات الاقتصادية الناتجة عن هذا التعاون، وتكمن أهمية هذا المدخل التعاوني في انه قائم على وجود خطر مشترك قد يهدد حياة الجميع في هذه الحالة (أزمة المياه)، والتي ينتج عنها صراعات سياسية. ومن اجل تجنب ذلك توجد عن طريق هذا المدخل إمكانية استبدال الصراع، الذي يصعب معه حل المشكلة، بالتعاون والاندماج في تكتلات اقتصادية ويساعد على نجاح ذلك في حالة دول حوض النيل، على سبيل المثال، هذا التنوع الجغرافي لدول الحوض والذي يجعل منها منطقة اقتصادية ناجحة، وفي هذه الحالة عندما يشعر كل طرف انه في حاجة إلى الطرف الآخر وانه يستفيد منه اقتصاديا بالتعاون معه فسوف يفاضل بين هذه المزايا وبين الدخول في صراعات حتى لو كانت على المياه، لان عملية التكامل هذه سوف تدفعهم في هذه الحالة إلى البحث عن حلول لمشكلة المياه فيما بينهم رغبة في تعظيم الاستفادة من المزايا الاقتصادية. وفي هذا الإطار يمكن تفعيل المداخل الأخرى، فمثلا المدخل الدولي قد يمكن من الاستفادة بالمساعدات والخبرات التي تقدمها المنظمات الدولية في هذا الشأن، ويمكن تفعيل أيضا المدخل المحلي في أن يكون هناك ما يشبه الاستراتيجية لكل دولة في أن تحاول أن تعظم من استفادتها من حصتها من المياه وتقليل الفاقد منها على قدر الإمكان بالوسائل المتاحة، والعمل على استحداث وسائل أخرى سواء في أساليب الري أو في طريقة نقل المياه من المجرى المائي مع المحافظة على المجرى من التلوث من الاستخدامات البشرية السلبية، حيث كل هذه المهام التي قد تتم داخل كل دولة على حدة من الممكن أن تقنن في شكل تعهدات لدول التجمع الاقتصادي فيما بينها في إطار التعاون القائم فيما بينها، ومن هنا فالإطار التعاوني والقائم بالأساس على أسس منفعية واقتصادية، يشكل المدخل الأنسب لحل الكثير من المشكلات المتعلقة بالأزمة المائية بجوانبها المختلفة سواء الندرة المائية أو الأمن الغذائي أو حتى الصراعات السياسية الناتجة عن ذلك.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2909 - الإثنين 23 أغسطس 2010م الموافق 13 رمضان 1431هـ