جاء الرئيس والكر بوش إلى البيت الأبيض في ولايته الأولى يحمل معه مخططا يهدف إلى رسم خريطة جديدة لما سـمي بالشرق الأوسط الكبير، ويجعل من هذه المنطقة حقل تجربته الأولى لتطويعها وتحويلها إلى منطقة تابعة للقطب الأميركي الأوحد، كمرحلة يتلوها فرض السيطرة الأميركية الأحادية الكاملة على العالم. وعن جدارة أخذت منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية الأهمية والأولوية في المخطط لما تحتضنه من طاقة النفط العالمي. ومن يمتلك هذه الثروة يمتلك العالم كله.
وعندما أنزل الإرهاب ضربته يوم 11 سبتمبر/ أيلول بالولايات المتحدة وهاجمها في عـقـر دارها، وشكلت أكبر إهانة وأعظم تحد لها، كان مخطط الإدارة الجمهورية جاهزا للتنفيذ، ولم يكن رد فعل للغزو الإرهابي المفاجئ. وقد تبين عجز المخطط عن بلوغ مقاصده في التجربتين الأوليين بأفغانستان والعراق، إذ لاتزال الحربان مشتعلتين على رغم إعلان نهايتهما.
كان لابد للبيت الأبيض - والحال هذه - أن يراجع مخطط رسم خريطة الشرق الأوسط الكبير بعد أن تبين، وخصوصا في الحملة الانتخابية للرئيس بوش للظفر بولاية ثانية، أن الإدارة الجمهورية خططت للسيطرة على العالم برنامجا طوبائيا عسير التنفيذ، بل مستحيلا. وأن حملتها "الدونكيشوطية" التي شنتها على العالم وعلى منظمة الأمم المتحدة أفقدتها ولاء حلفائها التقليديين، وزادتها كراهية في العالم، وحبستها في عزلة، وأنه لابد من وضع مخطط بديل أكثر واقعية وقابلية للتنفيذ يقوم أساسا على إعطاء تنازلات من جانبها، والتعامل مع العالم بعقلانية وحكمة وبتواضع.
لقد انتهت تحليلات الخبراء بالبيت الأبيض إلى استخلاص فشل المخطط الأميركي لتغيير المنطقة وضرورة إعداد مخطط مغاير يمكن أن يجرب هذه المرة بنجاح، ويحقق هدف هيمنة الولايات المتحدة على العالم، ولكن بأسلوب وآليات ومواقف جديدة من القيم العالمية المتعارف عليها والتي كانت استدبرتها، وتنكرت بذلك لماضيها المشرق. يقوم المخطط الجديد على خمسة أسس رئيسية سنقتصر على طرحها في ومضات مضيئة:
1" مد يد المصالحة إلى حلفاء الولايات المتحدة والعودة إلى علاقة التشارك مع الأقطاب في إدارة الشأن الدولي.
2" إعادة الاعتبار إلى منظمة الأمم المتحدة بتفعيل أجهزتها والعودة إلى الحصول على شرعيتها التي ظهر ألا غنى عنها في تسيير دواليب السياسة الخارجية وحل أزماتها.
3" التودد إلى الشعوب بممارسة مختلف الضغوط على النظم السياسية التي تتجاهل أو تـتـنكـر للقيم الكونية المتعارف عليها عالميا، ولو بتحريض الشعوب على التمرد على نظمها القائمة لحملها على الاستجابة لدعوة الرئيس بوش إلى ما سماه رسالة الديمقراطية والحرية.
4" مواصلة سياسة دك المعاقل المناهضة لـ "إسرائيل" في العالم العربي والإسلامي. ويدخل في ذلك خصوصا وبالأسبقية التهديد المبرمج المعلن لسورية التي أعلن بوش أنه يقاطع رئيسها كما قاطع من قبل رئيس دولة فلسطين ياسر عرفات.
5" خلق أجواء التوتر بين النظم وشعوبها حتى في الدول التي اعترفت بـ "إسرائيل" بخجل، كالأردن ومصر لتصبح أكثر انصياعا لـ "إسرائيل"، أو التي لاتزال لم تعلن تخليها عن ثوابتها كالمملكة العربية السعودية، وبعض دول الخليج وأقطار المغرب العربي.
ووراء هذا المخطط يكمن برنامج تكاملي رديف ومواز للمخطط المعلن ولا يحمل اسمه الحقيقي ويطبق في الخفاء المفضوح ويقوم على الأسس الخمسة الآتية:
1" لا يمكن للقطب الأميركي أن يسود منطقة الشرق الأوسط وتقوده "إسرائيل" إلا بإقامة دول مفتتة ممزقة الكيان عملا بالمبدأ الاستعماري: "فرق تسد". فانتخابات العراق أفقدت هذا البلد العظيم وحدته ووزعت سلطته بين الطوائف والمذاهب والأعراق. والسودان يقـسـم بين مسلمين ومسيحيين وأعراق مختلفة. وروج الأميركيون لإقامة نظم متعددة بالمملكة العربية السعودية. وهم يشجعون التوزيع الطائفي في اليمن، ويتطلعون إلى أن تـنخرم وحدة الجمهورية المصرية بين مسلمين ومسيحيين، وبين أصوليين إسلاميين معتدلين وأقباط مختارين.
وصرح الرئيس بوش بأن النظام المقبل في سورية يجب أن يقوم على التوزع الطائفي، وأن هذا التغيير بهذه الطريقة حتمي. وقالت كوندليزا رايس: "يوجد في منطقة الشرق الأوسط الكبير ثلاث دول لا تحترم حقوق الإنسان، أو تمارس الإرهاب، أو لا تكافحه، وهي مصر وسورية وأوزبكستان"!
2" تدويل القضايا العربية والإسلامية كقضايا السودان ولبنان. والمراقبة الدولية لتطور التسلح النووي الإيراني. والولايات المتحدة مـرهـفة الأذن لتطورات منطقة الأهواز الإيرانية لتكون حاضرة بها ولتعين النزعة العربية على التمرد على إيران الإسلامية، وتدويل النزاع في دارفور "بالسودان".
3" تغيير معالم الشرق الأوسط وطمس هوية المنطقة العربية بتحويلها إلى منطقة شرق أوسطية تكون فيها "إسرائيل" القاطرة القائدة لنظم سياسية ممزقة، وتصبح معها المنطقة منطقة دويلات محدودة الحجم على غرار "إسرائيل"، لكن "إسرائيل" هي التي تقود المنطقة بحكم ما تتوافر عليه من قوة عسكرية ونووية لا يوجد لها نظير في المنطقة العربية ولا في فضاء الشرق الأوسط الكبير.
4" غزو أجزاء من هذه المنطقة عن طريق إقامة قواعد عسكرية بعضها علني وبعضها سري. ويدخل في الغزو، الغزو الإنجيلي الكنسي الأميركي لخلق فصائل دينية متعارضة حتى في البلدان الذي لا يوجد فيها إلا دين واحد كالمغرب والجزائر.
5" ضغط الولايات المتحدة الشديد الجسور الممارس على الدول العربية التي تقاطع "إسرائيل" أو تتردد في التطبيع معها في الوقت الذي تتظاهر فيه بأنها لاتزال وفية لخريطة الطريق، في حين أنها تتفق تحت الباطن مع "إسرائيل" على أن تقتصر المرحلة الحاضرة على تفعيل خريطة شارون التي لا تزيد على الانسحاب الأحادي من غزة والذي يبقى مشكوكا في تحقيقه... والقائمة تطول ويقصر الحديث
العدد 1028 - الأربعاء 29 يونيو 2005م الموافق 22 جمادى الأولى 1426هـ