ظاهرة هجرة الإعلاميين، وخصوصا في التلفزة، واحدة من الظواهر التي تظل حاضرة ولا يمكن ضرب طوق من النسيان أو التعتيم حولها، لأن تلك الكوادر تطل من خلال شاشات شقيقة وهي تحقق نجاحات ملفتة، أولا لإمكاناتها العالية، وثانيا لتوافر المناخات الجاذبة التي تحفزها لبذل كل طاقاتها وإمكاناتها، بحكم ما توفره تلك البيئات من أسباب التميز والإبداع والخروج بالمختلف.
كنا نأمل الكثير من وزير الإعلام وزير الدولة للشئون الخارجية محمد عبدالغفار، لتصحيح أوضاع عدد غير قليل من الإعلاميين والكوادر الفنية المرتبطة بها في هيئة الإذاعة والتلفزيون، وخصوصا قناة "العائلة العربية"!، ولكن يبدو أن الحال سيظل كما كان عليه في فترة وزير الإعلام السابق.
خطت القنوات التلفزيونية الشقيقة خطوات كبيرة وملفتة، إن على صعيد ما تقدمه من برامج مدروسة ذات قيمة يمكن ملاحظتها، أو على صعيد بنيتها وتصديها لتمويل الأعمال الفنية والبرامج التي لا تتردد في الدخول فيها بغض النظر عن حجم الموازنات التي ترصد لها. نعلم أن الفجوة كبيرة في الإمكانات المادية بين مملكة البحرين وشقيقاتها في دول مجلس التعاون، ولكننا في الوقت نفسه واثقون بأن الدخول في شراكة حقيقية مع المؤسسات الأهلية في عدد من المشروعات، يمكنه أن يوفر على الهيئة الكثير من الجهود والأموال، يضاف إلى ذلك أن الإنفاق على تأهيل طرف مهم من أطراف البنية التحتية لأي جهاز إعلامي، وهو الكوادر البشرية، يعد خطوة عملية وحقيقية في طريق نجاح أي مشروع يراد له أن يحترم ويقدر بين أوساط جمهوره ومشاهديه، اذ يمكن القول إن مثل تلك البنية ظلت مراوحة مكانها. لذلك على الوزارة ان توفر ردها الممل والمكرور بالاستشهاد بمركزها الإعلامي الذي هو دون مستوى القدرات الفعلية لمنتسبيه، بدليل أن إطلالتهم على الشاشة لا تكسر سوى رتابة الوجه الواحد والصوت الواحد والهيئة الواحدة.
وفي الحديث عن البنية التحتية المتآكلة في الهيئة، يصبح اتخاذ شعار " قناة العائلة العربية" ضربا من السخرية والضحك على الناس، وشبيها بتبجح البعض باستفتاءات مفبركة - تذكرنا بالاستفتاءات الرئاسية العربية - لبعض الصحف التي تمنح نفسها الريادة وموقعا في الصفوف الأمامية، والأكثر مبيعا، بينما هي فيما تقدمه لا تستحق أن يطلق عليها مسمى "صحيفة"، بقدر ما أن المسمى المناسب لها هو "صفيحة".
الزمن تغير، ويفترض بالناس العاديين في إمكاناتهم، أو حتى أولئك الذين لا يملكون إمكانات أن يبادروا إلى التعامل ومعايشة ذلك التغير بوعي وإدراك كبيرين، فيما قناة البحرين، والتي تعد رائدة ضمن تاريخية انطلاقها، تفاجئك شهرا بعد شهر، وعاما بعد عام بإصرارها على تسجيل مزيد من التراجع والتقهقر على مستوى ما تقدمه من برامج، باستثناء برنامجين حواريين .
وفي الحديث عن البرامج الثقافية يصبح أمر التراجع والتقهقر فاقعا في صوره ومشاهده، مع كامل احترامنا للزملاء القائمين عليها، ومع علمنا الكامل بصدق توجهاتهم وحرصهم على أن يحدثوا حركة في الراكد من مياه برامج القناة الفضائية، فإن إخضاع ما يقدمونه إلى الفحص يكشف عن تسطيح يمكن ملاحظته في طبيعة تكرار وتآكل محاور البرنامج الثقافي الوحيد في القناة، مع تأكيد أن الزملاء القائمين عليه لديهم من القدرات الشيء الكثير، ولكنها طبيعة البيئة المنفرة والطاردة لكل أشكال ومضامين الابتكار والإبداع والتجديد، في ظل انعدام الحوافز والمكافآت، اذ كل ذلك يولد حالا من شل القدرات وتضييق أفق المعالجات والمحاور التي تقدم.
التنقل بين القنوات الفضائية الإقليمية يكشف لك عن الفارق الكبير وحجم الهوة القائمة بين ما تقدمه "قناة العائلة العربية"! وبين ما تقدمه القنوات الخليجية الأخرى، ولن تجهد نفسك كثيرا للبحث عن إجابة على سؤال لم يعد ملحا: لماذا ترك عدد من الكوادر الإعلامية البحرينية قواعدهم في وطنهم الأم مولين وجوهم شطر قنوات شقيقة، لولا سوء التدبير والتقدير اللذين امتد أثرهما على نوعية ما كانوا يقدمونه في القناة في ظل أجور ومكافآت تبعث على الخجل وبسبب هيمنة عدد من الحرس القديم الذي استنفد ما لديه، ولم يكتف بذلك فعمد الى "تحبيط" وشل إمكانات وقدرات الجيل الجديد من الإعلاميين الذين تفرخهم جامعتنا العتيدة، ما يدفع كثيرين منهم إما الى العمل في مجالات بعيدة عن التخصص أو الرضى والقبول بحالتي التدجين والتنميط اللتين تنتجهما هيئة الإذاعة والتلفزيون ببراعة عالية!.
أذكر هنا فقط تجربة واحدة من تجارب التعامل مع الهيئة: بعد عودتي من الخارج الذي قضيت فيه أعواما طويلة، عملت خلالها في عدد من القطاعات الإعلامية المتنوعة، بما فيها التلفزيون، إذ كنت معد برامج ثقافية في قناة "اقرأ" التابعة إلى شبكة "ART" "راديو وتلفزيون العرب"، قبل أن تتحول إلى قناة تعنى بالموضوعات الإسلامية، أعددت خلالها برنامج "الخليج الثقافي"، وكان من البرامج التي تم التجديد لها، واستضاف وجوها ثقافية وفكرية خليجية وعربية. أقول بعد عودتي وكان وزير الإعلام وقتها محمد ابراهيم المطوع، تقدمت بعرض لمواصلة إعداد البرنامج في تلفزيون البحرين مع تصور جديد لتطويره، وأرفقت العرض بنسخ محددة من حلقات البرنامج، ولأن الوزارة كانت تعامل زوارها باعتبارهم خطرين أمنيا على مبنى الوزارة وموظفيها في مطلع الألفية الجديدة، حالت الإجراءات دون دخولي الى المبنى والتقاء المعنيين، مفضلا ترك الطلب/العرض مع موظفي أمن الوزارة، الذين قاموا بالمهمة... مهمة أن لا أتجرأ على التفاؤل كثيرا!
ترى، في ظل إيقاع المرحلة الراهنة، وكسر حاجز الاحتكار الإعلامي الذي أمسكت بخناقه الحكومات خوفا على شعوبها من سوء الأخلاق والوعي والإدراك، وبالتالي انجرافها وراء ما لا يجب أن يشاهدوه أو يسمعوه، أم تصبح الحاجة الى التعامل مع تلك الشعوب بمنطق مختلف على الأقل لحفظ ماء وجهها في ظل منافسة لن تقوى على مواجهتها أولا، وثانيا للاحتفاظ بما تبقى لها من حضور في ظل المنافسة المقبلة، والتي لم تعد قصرا على الدول التي تملك جيوشا وأجهزة استخبارات ونشيدا وطنيا، بل سيشاركها في تلك المنافسة الرساميل التي تخصص جزءا كبيرا من اعتماداتها للعنصر البشري، تأهيلا وتدريبا وإعدادا كي تتمكن من تقديم ما لا تقدمه المشروعات الأخرى، فتكسب بذلك تهافت الجمهور عليها، واعتمادها بالتالي مروجا ذا إمكانات لعدد من المشروعات
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 1028 - الأربعاء 29 يونيو 2005م الموافق 22 جمادى الأولى 1426هـ