في ظل الأجواء الحالية، وقياسا على معطيات الواقع، ومنطلقات التحليل للساحة السياسية والقوى الاجتماعية؛ فإني أعتقد بأنه لم يتم إنصاف السلفيين سواء من العلمانيين أو الليبراليين، وذلك بالخلط بين الفرق السلفية من دون معرفة دقيقة بتفصيلاتها وتلاوينها المختلفة، أو من قبل غيرهم من الإسلاميين الآخرين الذين لا يتورعون عن التجاهل أو التغييب المتعمد للفرق بين الفرق السلفية في البحرين.
الفرقة الأولى
تنقسم السلفية إلى ثلاث فرق رئيسية "يعتمد هذا التقسيم في جانبه الأكبر على مواقف الفرق السلفية في الشأن السياسي". الفرقة الأولى تسمى "المداخلة" نسبة إلى الشيخ ربيع بن هادي مدخلي، وهذه الفرقة تقوم بالتنقيب في أخطاء الفرق الإسلامية الموجودة حاليا، وهي لا تهتم بقضايا الأمة المصيرية سواء الحرب الشعواء من الامبريالية الضارية في نموذجها الحاضر "العولمة أو الأمركة" أو غيرها من مفاصل رئيسية في حياة الأمة العربية والإسلامية.
لذلك، فإن انشغال واشتغال تلك الفرقة، بأخطاء الفرق الإسلامية الأخرى والتشنيع عليها يطغى على كل جانب في منهجها، وأول ما بدأت به "فرقة المداخلة وشيخهم" بالهجوم على سيد قطب - رحمه الله - الذي يقول فيه الشيخ ربيع مدخلي: "إن سيد قطب لم يترك بدعة إلا واحتواها، ولا أصلا للإسلام إلا وهدمه"، وكذلك ما يردده أتباع هذه الفرقة بأن السلفية الحقة هي سلفيتنا و"سلفيتنا أقوى من سلفية الألباني"!
ومكانة الشيخ ربيع عند أتباعه يلخصها الشيخ علي بن حسن الحلبي بقوله: "إن الله امتحن أهل السنة بالشيخ في هذا العصر فمن والاه فهو السلفي، ومن خالفه فليس بسلفي". وفي موقع آخر يقول عنه: "إن من يزر مدينة الرسول من السلفيين، ولا يزور الشيخ فإنه لا يكون سلفيا". وتنحصر جل اهتمامات هذه الفرقة في العبادات التوقيفية والانغماس في دراسة تفاصيل التفاصيل، والتي أفتى بها العلماء السابقون.
وأول ما ظهرت فرقة المداخلة على السطح واشتد عودها، إبان توقيع "مذكرة النصيحة" 1992م وبزوغ تيار شيوخ الصحوة الإسلامية "الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي وعايض وعوض القرني وآخرين" بعد حرب الخليج الثانية وقبلها رسالة الشيخ سفر الحوالي للشيخ بن باز إبان الاستعانة بالأميركان بعد الغزو العراقي للكويت. ومن أجل عمل توازن لميزان القوى السلفية واستقطاب شيوخ الصحوة للشباب، كان لابد من ظهور - أو خلق - خط مواجهة دينية من المذهب ذاته، فكان أن انطلقت حركة المداخلة من المدينة المنورة، من خلال دروس الحرم النبوي، في وقت اشتدت فيه الوطأة على موقعي "مذكرة النصيحة" وطلابهم الذين هم بالكثرة العددية التي يخشى منها؛ وبما أن الفكر الديني لا يواجهه أو يجعل الفراغات تحتل حيزا من جسده إلا من خلال فكر ديني مضاد فقد تم تقوية شوكة "المداخلة" في قبال شيوخ الصحوة وأتباعهم.
و"المداخلة" يرون أن فقه الواقع "العمل السياسي" من اختصاص "ولاة الأمور" فلا يجوز لأحد من طلبة العلم الانشغال بذلك الفقه وإلا قالوا عنه: إن هذا من إسناد الأمر إلى غير أهله، وكذلك اعتبارهم "العمل السياسي" أمرا لا يقدر عليه المسلم ولا يطيقه، وبالتالي لا يشرع العمل فيه "لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يكلف العباد في دينهم الذي شرعه لهم ليؤثمهم بالعجز عما يطيقون من فعل المأمورات، وترك المنهيات، ولهذا كان من مفاخر السلفية عندهم عدم اشتغالهم بالعمل السياسي ومن خالطه "أي العمل السياسي" فإنما يخالطه بوزر، ومن تاب منه تاب الله عليه، فيفرض على العلماء والدعاة التحذير منه". ينقل ذلك عنهم عبدالرزاق الشايجي.
وفرقة المداخلة متهمة بمداراة خاطر الحكام ولا تعصي أمرا لولي الأمر، أيا كان هذا الأمر، وعندهم غلو في ذلك الأمر حتى فسروا المقصود بالجماعة في حديث النبي "ص" بأنها "الحكومة" بل وذهب أحدهم، من على المنبر، في تعليقه على ما تناقلته الصحف من كلام لزوج أحد المسئولين العرب، والتي جعلت من نفسها "مفتية" في أمور الشريعة "الحجاب"، إلى ان "..." من أولي الأمر وأن الله تعالى أمرنا بإطاعة أولي الأمر!
والمداخلة بدورهم يكيلون التهم لبقية فروع السلفية بالخروج على الحكام، وتلك الفرقة "المداخلة" بأسها وشدتها مع المسلمين "السلفيين خصوصا" أعظم وأكبر منها مع الكافرين والمنافقين والصهاينة المحتلين، ومؤلفاتهم تشهد على ذلك. وأتباع هذه الفرقة في بلادنا قليل ولا يتعدى وجودهم مركزا أو مركزين، ومقرات لتوزيع الأشرطة الصوتية، ويطلقون على فرقتهم مسمى الأثريون "أي أتباع الأثر" نسبة إلى أثر النبي "ص" والصحابة والسلف الصالح. وقد انقسمت هذه الفرقة الآن إلى ثلاث فرق بالإضافة إلى الفرقة الرئيسية "المداخلة"، فهناك فرقتان هما: الحدادة والمفالحة الأولى منتسبة للشيخ الحداد وهو زميل سابق للشيخ ربيع والثاني طالب لدى الشيخ ربيع. "اعتمدت في ذلك على جزء مما ذكره عبدالرزاق الشايجي".
الفرقة الثانية
أما الفرقة الثانية من السلفية، وهي الفرقة الوحيدة التي خاضت غمار الانتخابات التي جرت "البلدية والنيابية"، وأتباعها كثر في البلاد، وقواعدها تتمركز في أوساط القبائل العربية لأسباب اجتماعية أكثر منها دينية عقائدية، مع وجود غيرهم من المنتمين لهذه الفرقة. وأساس منطلقاتها الفكرية فتاوى ودروس علماء الجزيرة، الشيخان بن باز وبن عثيمين والشيخ الألباني في الشام رحمة الله عليهم، واعتمدت هذه الفرقة في المشاركة في التصويت على ميثاق العمل الوطني وخوض الانتخابات النيابية على فتاوى هؤلاء العلماء، وهي الفرقة السلفية الوحيدة في البحرين التي شكلت جمعية سياسية. وقواعد هذه الفرقة عريضة، و"تغوص" في العمل الخيري النافع اجتماعيا للناس، ومع ذلك هناك مؤاخذات على هذه الفرقة من المواطنين، وخصوصا في عملية توزيع المساعدات على غير البحرينيين، والذي تقوم به من منطلق -وذلك ما تتوافق عليه وتؤمن به مختلف الفرق والطوائف الإسلامية - ان عقيدة المؤمن جنسيته أو جنسية المرء عقيدته.
الفرقة الثالثة
وأما الفرقة الثالثة فإن منطلقاتها العقائدية والمنهجية خليط بين فكر الجهاديين والسروريين، وانها أبعد ما تكون عن الحكام وأصحاب السلطة، وهي ترى أن ما يقوم به الحكام من عدم تطبيق الشريعة هو ظلم بين "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" وتستشهد كذلك ببقية آيات الحكم بغير ما أنزل الله في سورة المائدة أو غيرها من آيات قرآنية وتؤسس على ذلك أحكامها، مستندة في ذلك إلى: "ان السلف كانوا يتجنبون أبواب السلطان، وإن كان عادلا مقسطا"، وكذلك على قول النبي "ص": "من أتى أبواب السلطان افتتن"، وقول سفيان الثوري: "إذا رأيت العالم يكثر الدخول على الأمراء فاعلم أنه لص".
وبناء على ذلك ترى هذه الفرقة أنه لا فائدة مع الحكام أو المداراة أو الإصلاح من الداخل بل الثورة والاقتلاع من الجذور. ولكن فيما يخص المشاركة في الانتخابات والعملية التشريعية طرأ بعض التغير على خطابات شيوخ هذه الفرقة ولعل موقف أبرزهم وهو الشيخ محمد زين العابدين بن سرور "وتنتسب إليه بعض أقسام هذه الفرقة والتي تسمى بالسرورية" الذي لا يرى فائدة من المقاطعة بل دعا إلى المشاركة في المجالس النيابية والبلدية في ظل الأنظمة القائمة، مستندا في ذلك إلى مشاركة الشيخ محمد رشيد رضا في الانتخابات البلدية، وترؤسه للمجالس البلدية في الشام. إلا أن أتباع هذه الفرقة في البحرين مازالوا يصرون على مواقفهم من المشاركة في انتخابات السلطة التشريعية والعملية الديمقراطية، ومازال الشيخ أبوحذيفة يندد بـ "الديمخرافية" كما ينعتها! وقد حاولت فرقة المداخلة استخراج قرار إدانة لفرقة السرورية من الشيخ الألباني وما فلحوا في عملهم هذا فقد كان الألباني يقول لهم: "ما في داعي للخلاف ما دام الأمر هكذا".
"المعاودة" وجماعته
هذه الفرق الرئيسية التي تمثل السلفية في البحرين، وبما أن الشيخ عادل المعاودة يأتي على رأس الفرقة الثانية، فإنه وجماعته في موقف لا يحسدون عليه، فهو في جانب يعاني من التشويش على فكره ومعتقده من قبل الجماعات المتزلفة للحكام ونشرها كتيبات ومناشير، واستخدامها لصفحات الإنترنت متهمة المعاودة وجماعته بالحزبية وغيرها من اتهامات، وترشقه الفرقة الثالثة وهي التي لا ترى في الحكام خيرا بالمطلق بأنه يقف في صف الحكام، خصوصا في الصور الملتقطة للشيخ المعاودة بعد الانفتاح السياسي في البحرين أو في المقابلات على الفضائيات. وهكذا يواجه المعاودة وجماعته السلفية اتهامات لا قبل لهم بها، إضافة إلى معاداة جانب من الإعلام الرسمي له، بل وحتى على صعيد بعض التجمعات والجمعيات الأخرى التي تأخذ موقف الضد لفكر الجماعة، وذلك ما صرح به المعاوده في لقاء له مع "قناة العربية".
جمعية الأصالة السلفية في حاجة ماسة إلى آلة إعلامية توضح سياسات وأهداف ومبادئ الجماعة، لكن ينبغي التخلي عن سياسة إمساك العصا من النصف، وبالتالي توضيح الأهداف بكلمات لا لبس فيها، سواء في موقفها من مبدأ العدالة الاجتماعية بين المواطنين والمساواة في الحقوق والواجبات، وتوضيح مواقفها بشأن بعض المفردات والمصطلحات "كالتكفير أو الحقوق المواطنية مثلا" بطريقة عصرية وواضحة، ذلك أن التشويش عليها من خارجها كما ذكرنا، أو من الداخلين فيها من جهلاء القوم، ومن محبي الفتن أو متزلفي السلطان لمصالحهم الخاصة أو بسبب نعراتهم القبلية، أضف إلى ذلك ما قدمته "كتلة الأصالة" في البرلمان يكاد يجعل من الصعب استمرار اصطفاف القواعد الشعبية خلفها، ولعل في بيان "عمومية الأصالة" الأخير - بشأن الاستقالة والمقاطعة - مثالا لحال التذمر والشكوى السائدة من أداء أعضائها في البرلمان.
وفي اجتماع الجمعية العمومية "للأصالة" وعدم اكتمال النصاب مؤشر على ذلك ودلالة واضحة ينبغي أخذها في الاعتبار من قبل مجلس الإدارة والكتلة النيابية. ومع ذلك فإني أعتقد أن جمعية الأصالة هي أكثر الموجودين على الساحة السلفية فقها بالواقع، وانفتاحا على الآخر.
والملاحظة الأخيرة للتيار هي أن عالم السياسة والواقع يقول: إذا لم يزد في رصيدك فرد واحد فبالتأكيد ينقص من رصيدك عشرة أفراد، وكما يروى في الأثر "من لم يكن في زيادة، فهو في نقصان"، فهل يدرك المعاودة والمخلصون من جماعته خطورة هذا الوضع وعمل التدابير اللازمة لعلاجه؟ إجابة هذا السؤال ستتجلى بكل وضوح في انتخابات 2006!
أعتقد أن هذه التقسيمات هي الأقرب إلى الفرق السلفية في البحرين، وإن كان لبعض الأفراد من انشقاقات نفسية أو عضوية عن الفرق التي ذكرناها إلا أن تلك الانشقاقات لا ترقى لأن يشار إليها ككيان ديني أو مذهبي فضلا عن كيان سياسي أو اجتماعي. والفرق السلفية الثلاث وإن كانت تلتقي في المدونات التراثية وكتب الحديث ولكن فهمها وتطبيقاتها تختلف، وان التفرقة بينها ضرورة يحتمها واقع التحليل، ومبدأ العدل والإنصاف تجاه الآخر
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1027 - الثلثاء 28 يونيو 2005م الموافق 21 جمادى الأولى 1426هـ