في أحد كتب الرحلات العظيمة كتب الرحالة العربي في مقدمة الكتاب ما معناه أن من رأى وشاهد غير من سمع، ومن خبر الحياة فتنقل من مكان الى مكان والتقى بالناس في طبائعهم المختلفة غير الذي قنع بالاطلاع على ما كتبه من رأى وشاهد.
تقف اللحظات مثخنة بسؤال جريح: ما الذي حققه من قضى عمره أسيرا لكتاب ما، وما الذي أضافه هذا المغامر والرافض لتراث الناس وفكرهم حين انزوى آخر الليل في ركن قصي يقرأ كتاب كاتب ما؟! ان الناس حوله تعيش الحياة بالطول والعرض. فأيهما عاش الحياة؟! هل هو من رفض حياة الناس وأقبل الى رياض الكتاب فاستظل بها وبحروفها، أم ذاك الذي استهزأ بعقول الأولين والآخرين فقنع بترتيب لقاءاته مع أبناء الشمس؟!
كان يعلم أنه مصلوب على جذع شجرة يوما ما، لكن كتابه كان في يده حتى في لحظة موته. وقف أمام الجميع وعيناه ترى الناس ولكن قلبه كان في مكان آخر. ابتسم فظنه الناس يبتسم للموت فأكبروه، وقطب فحسبه الناس خائفا من الموت فازدروه. لكنهم بعد أن دقوا يديه ورجليه بالمسامير- قال صبي - لقد رأيته يقرأ شعر "لوركا".
أواه من نغمة أولئك الطيبين حينما دعونا يوما لمأدبة لا تفتر عن توزيع أطايبها للحاضرين. قال البعض انها تشبه ناقة صالح وقال آخرون إنها مأدبة غمرها الضوء فلا نستطيع أن نأكل منها. بينما طلعت امرأة من وراء خمار لتقول للحاضرين كلوها ففيها من أصابع زوجي وسهره الكثير، ومن وقت أبنائه ما لو ران على قلوبكم لتعلقتم بالسماء عن الأرض ولما رضيتم بغير نفس واحد تستطيعون الحياة بها. انها مائدة نضدها زوجي بحبر دمه.
لما أن ووري جثمانه الثرى بحثوا في قميصه المعلق فوجدوا فيه صندوقا صغيرا. لكنهم لما يجرأوا على فتحه. بينما قنع طائر بالنظر اليهم من علو. حتى اذا وجدهم يلعبون بهداياه الثمينة نزل اليهم وعيناه تقدحان شررا. ولما حاولوا اصطياده تحول الى الثوب المعلق، ودخل الصندوق. فاجترأوا على فتح الصندوق فوجدوا داخله جثمان صاحبهم.
مئات من الوجوه كانت تحدق في عين الرحالة. لكنه خاف وانزوى الى ركن قصي وأخذ في قراءة كتابه عن رحلاته. لم يكتب الكتاب وانما كتبه زميل له حينما كان في السجن. مات زميله وخرج الى الناس ليحدثهم عن رحلاته. فطلبوا منه أن يقرأ من الكتاب لكنه خاف وانزوى الى ركن قصي. انه لا يعرف القراءة
العدد 1026 - الإثنين 27 يونيو 2005م الموافق 20 جمادى الأولى 1426هـ