كتاب جديد لأستاذ علم النفس بجامعة البحرين مصطفى حجازي، يستقصي فيه حالات الهدر وألوانه وآثاره على الإنسان العربي. ويتفاوت الهدر من حيث الشدة ما بين هدر الدم واستباحة حياة الآخر باعتباره لا شيء، وبالتالي عديم القيمة والحصانة ما لا يمكن التصرف فيه وبين الاعتراف المشروط بإنسانية الإنسان كما يحدث في علاقة العصبيات بأعضائها. وفيما بين هذا وذاك يتسع نطاق الهدر كي يشمل هدر الفكر وهدر طاقات الشباب ووعيهم وهدر حقوق المكانة والمواطنة "بحيث تصبح المواطنة نوعا من المنة يمن بها على الإنسان!". كما قد يتخذ الهدر طابع تحويل الإنسان إلى أداة لخدمة أغراض العصبيات أو الاستبداد يضحى به في حروب النفوذ باعتباره الوقود الذي يغذي اشتعالها، أو الأداة التي تبجل وتطبل للسلطان المستبد وتخدم أغراض هيمنته. الهدر على هذا المستوى هو نقيض بناء التمكين والاقتدار وصناعة المصير.
يوضح حجازي أن الحديث عن الديمقراطية والحرية كحل للأزمات التي يواجهها الإنسان العربي كاد أن يصبح مبتذلا لكثرة تكراره وانتشاره، مادام يتحول إلى شعارات تتساهل بشأنها السلطات وكأن لسان حالها يقول: دعهم يتساجلون مادام الأمر لا يمس الكراسي ولا يهدد المغانم. بل أن الكثير من السلطات تركب مركب الشعارات ذاته في نوع من المزايدة التي توفر لها الغطاء وترفع عنها تهمة الاستبداد. كما أنها تكرس هذا الغطاء من خلال تكرار مظاهر الديمقراطية على شكل استفتاءات وانتخابات لم تغير واقع التخلف والقصور شيئا.
ويتحدث الكاتب عن مثلث الحصار الفعلي والمادي الذي يفرض على الواقع العربي وإنسانه. والمقصود بمثلث الحصار هو حكم المخابرات والبوليس السري كركن قاعدي للمثلث، يتممه ويعززه ركنا العصبيات والأصوليات. فالأصوليات مثلا تشن حربها ليس على الجسد وطاقاته الحيوية وحدهما أو على السلوك وحركيته، بل أساسا على الفكر وانطلاقه ومرونته وصولا إلى مطاردة النوايا.
المرأة والشباب والطفولة، يواصل الكاتب، من أكثر الشرائح السكانية تعرضا للهدر. إذ يختزل كيان المرأة إلى أداة الإنجاب والمصاهرة، وأما هدر الطفولة فهو إحدى مشكلات التنشئة الكبرى في عالمنا العربي، إذ إن أسلوب التنشئة القمعية التي تقمقم الطاقات يفعل فعله في البيت ويستكمل في المدرسة في نوع من الخطة المبرمجة لقمع العفوية والإبداع والانطلاق. وأما هدر الشباب فهو استكمال لهدر الطفولة وتتويج له. ويتجلى هدر الإنسان العربي من قبل ثالوث الحصار والقمقمة "الاستبداد والعصبيات والأصوليات" من خلال التعامل معه ليس باعتباره إنسانا له كيان وقيمة، وإنما باعتباره أداة أو عقبة ومصدر تهديد.
في معرض حديثه عن الترغيب وآليات التعزيز يستعمل الكاتب مصطلح "التحكم الناعم" ويعتبره الأكثر فاعلية وتأثيرا على المدى البعيد، إذ بمقدور المتسلط التأثير على الناس كما يشتهي: في عملهم ولعبهم وأفراحهم وأتراحهم، كلها بين يديه بشكل مداور خفي. هنا يترك المستبد، ذو القبضة الفولاذية التي تلبس قفازا مخمليا، الناس يعتقدون أنهم يملكون الإرادة في عمل ما يريدون. إلا أنهم ينبغي ألا يريدوا إلا ما يريده هو أن يعملوا. تلك هي قمة التحكم الذي يتجمل بزينة الديمقراطية، والهيئات التمثيلية والانتخابات واللجان الممسوكة جيدا. ويخصص الكاتب فصلا كاملا عن الاعتقال والتعذيب وهدر الكيان فيتحدث عن التعذيب الجسدي العنيف والعنف من خلال الإجهاد أو التحقير. ولكن تظل الحاجة ماسة إلى رعاية علاجية - طبية ونفسية - وتأهيل في آن معا، حتى تتمكن الضحية من تجاوز الاضطرابات التي عصفت بكيانها لتسيير حياتها بشكل معقول. ويخصص الكاتب فصلا كاملا لبحث الشباب المهدور بما يشمل من هدر للوعي والطاقات والانتماء.
الغضب والعنف والحقد - يذكر الكاتب - لا تعدو كونها استجابة حيوية وهي مشاعر إنسانية محضة تشكل الترجمة النفسية للعدوانية الشائعة عند مختلف الكائنات الحية والتي تتحرك عند التهديد بالخطر إما بالقتال أو الهروب أو التجمد. ولكن حين تكون الترجمة متعذرة لأنها تحمل خطرا داهما على الحياة المادية والاعتبار المعنوي فإن الآلية الحيوية البديلة تكون الهرب لأن الحيلولة بين طاقة الحياة الوثابة وانطلاقها نحو النماء لا يقتلها سوى ظاهريا... إنها تغلي في الداخل كبركان خامد ظاهريا لا ندري متى يتفجر أو هو دائما قيد الانفجار حين تتراخى وطأة الضغوط والتهديدات الخارجية.
ويختتم الكاتب بروح التفاؤل قائلا: إن قوى النماء الحية مازالت حاضرة ومازالت تتكاثر على رغم كل محاولات القمع والاستبداد، فالحياة تأبى إلا أن تجدد ذاتها وهذا يستدعي مهمة إزالة الركام عن الطاقات الحية وإطلاق دينامياتها عبر ثلاثة محاور رئيسية: أولها متطلبات ولوج عالم القوة والقدرة الراهن والمستقبلي وأهمها العناية بالموهوبين باعتبارهم المورد الوطني الثمين وغير القابل للاستبدال ويأتي معه إبراز الكفاءة النفسية والمعرفية والمهنية والاجتماعية، ويتمثل ثانيها في الوعي بالهدر الذاتي الذي يكرس سطوة الهدر الخارجي، كمقدمة لمحاربة هذا التواطؤ بين الذاتي والخارجي المفروض. ويقدم الكاتب نموذجا على ذلك حركة تحرر المرأة، إذ لا يعترف لها بكيان يحظى بالتقدير والمكانة والحماية إلا بمقدار امتثالها للأدوار والوظائف التي تفرض عليها لخدمة أغراض العصبية البطركية، وهو نقيض الإرادة الحرة للمرأة. الوعي هو أساس امتلاك الذات وصولا إلى توجيهها والتعامل النشط مع الدنيا والناس. ليس المهم أن نثبت أن الواقع ظالم أو محبط، ونقف موقف الضحية التي تستعرض ما حل بها من حيف... ونثور ونحترق، بل الأهم أن نتدبر سبل التعامل مع هذا الواقع كي نخرج بأقل الأضرار كحد أدنى. وثالث المحاور يتمثل في استعراض أهم معطيات علم النفس الإيجابي التي تساعد على بناء التمكن الذاتي وصولا إلى حسن الحال الكياني وتعميمها على أكبر شريحة ممكنة من الناس. وهو ما يشكل فرصة الانطلاق في مشروع شخصي للنماء لمجابهة الهدر.
من الصعوبة تلخيص عمل جبار أخذ من الكاتب جهدا واضحا واختصار 350 صفحة في صفحة واحدة. ولا يمكن الاطلاع على هذا الكتاب في قراءة عابرة، إذ يحتاج إلى الكثير من التروي والتركيز وإمعان الفكر لدى قراءته
العدد 1026 - الإثنين 27 يونيو 2005م الموافق 20 جمادى الأولى 1426هـ