يضرب المنطقة العربية إعصار سياسي كبير، وتتراوح مقدمات الإعصار من الشعارات التي ترفع في القاهرة كما نقلتها الصحف الصادرة في الخارج "حكومة هز الوسط بكرة الرغيف يبقى بالقسط" وهو شعار يستمع إليه كثيرون في العواصم المختلفة، إلى سلسلة اغتيالات يبدو أنها لن تتوقف في وقت قريب في لبنان، إلى حرب تكاد تتحول إلى أهلية وجاهلية في العراق، إلى معاناة سورية نتيجة الضغط الخارجي والداخلي، إلى شقاق يبدو أنه غير ذي نهاية في السودان، إلى نتائج انتخابات رئاسية في الجوار تحمل التشدد.
إذا، الإعصار يبرق ويرعد في المنطقة حولنا، إنه الـ "تسونامي" السياسي الشرق أوسطي، ونحن في الخليج لا نريد أن نرى ما خلف الأكمة، كما يقول المثل العربي!
نتحدث عن مجلس التعاون حديثا موسميا وهو في الغالب ينتعش آخر العام من كل سنة عندما يبدأ الاستعداد لعقد القمة الخليجية في إحدى العواصم، وبعده يفتر الحديث حتى العام المقبل.
وعندما أتحدث عن المجلس هنا لا أقصد الإدارة التشغيلية المكونة من الأمانة العامة ومنتسبيها، فهي تبذل في إطار المتاح في الفضاء المسموح لها به أقصى الجهد الممكن، وهو جهد مشكور، ولكن الحديث هنا ينصب على "فقد القرار المركزي لاستراتيجية عامة لدول الخليج" وتطوير رؤية تأخذ في الاعتبار ما يحيط بالمنطقة من تغيرات جذرية شاخصة، بعضها من نتائج الإعصار الذي ذكرت، وبعضها بسبب التطورات العالمية. فهل القيادات في مجلس التعاون بصيرة بما يحيط بالمنطقة من تغيرات ضخمة؟ وهل لديها الاستعداد لمناقشة تأثير هذه المتغيرات على الخليج وأهله في المستقبل المنظور والمتوسط؟
جملة المتغيرات كثيرة، ولعل أولها الحرب على الإرهاب الذي تحول إلى حرب من أجل الديمقراطية والشفافية وحكم القانون وسيادة أنظمة السوق من بين أمور أخرى، لعل الموضوع المركزي هنا هو "الاقتصاد" الذي لا يبدو أن هناك تصورات منطقية ومستقبلية له في الخليج غير الاعتماد على السوق الدولي في رفع أسعار النفط والاستفادة المؤقتة منها.
رفع أسعار النفط هي مجلبة للنفع للمنطقة ومثلبة في الوقت نفسه، لأن المبالغ الخيالية التي تدر على خزينة الدولة في دول النفط، تجد لها مسارب غير تنموية إن لم يكن تحكمها رقابة صارمة وتقودها خطط تنموية، فقد تذهب إلى غير منفعة، والإصلاح المطلوب هو الإصلاح الاقتصادي، لأن أكبر مزالق الفساد، هو الفساد الاقتصادي، ولقد مر على الخليج حين من الدهر بين ارتفاع للأسعار وانخفاض لها، تذبذبت معها السياسات المختلفة بين شد الأحزمة على البطون، حتى إرخائها من دون سقف، فتترك الأولى مرض سوء التغذية، وتترك الثانية مرض التخمة، إلا أن المرضين ينتجان محصلة واحدة، هي نقص المناعة الاجتماعية والسياسية لمجتمعات الخليج.
ما يواجه المجلس هو هذا الغياب في الاستراتيجية الاقتصادية، والذي يؤثر غيابها بعد ذلك على جملة من الملفات.
على رغم أن الاتفاق الاقتصادي، كما أقرت منذ البداية من المسئولين ووصفت بأنها "عصب الاتفاقات لمجلس التعاون" فإنها مازالت تراوح مكانها، يخترقها البعض، فيخرقها الكل. وإذا كان ثمة تحد في دول الخليج مشترك وجوهري فهو تحدي الإصلاح الاقتصادي، أبو الإصلاحات جميعا وأمها.
الوفرة المالية الحالية في الخليج تجبر البعض أو الكثرة على النظر إلى الوضع القائم وكأنه دائم، ولا أضر من اقتناع المسئول، خصوصا الكبير، أن الوضع القائم دائم، فهذه النظرة مهلكة للكثير من الدول والمجتمعات، ويظل المسئول أسيرا لهذه النظرة الآنية حتى تفاجئه الحوادث.
إذا كان ثمة تغير قادم في منطقة الشرق الأوسط مرورا بالعراق والسودان ومصر وبعض البلدان العربية الأخرى، فإن التغيير في دول الخليج هو الأسرع والأكثر قدرة على تجاوز آلام التغيير التي قد تصيب بلادا عربية أخرى بمقتل.
لاشك في أن التغيير الحادث في العراق هو تغيير مؤلم، وهو تغيير يراق الدم على طريقه الصعب كل يوم بل كل ساعة، ويفقد آلاف من إخوتنا في العراق أرواحهم كل شهر بسبب رياح التغير العاصفة، إلا أن السكوت عن ذلك سيسبب الكثير من آلام لنا في منطقة الخليج في المستقبل القريب، فسنرى قريبا، كما رأينا في السابق، جماعات العائدين من أفغانستان والشيشان وغيرهما من مناطق الصراع، وسنرى فئة جديدة "هي العائدون من العراق"، فليس لنا في الخليج حتى الساعة تصورات تواجه احتمالات الفشل أو النجاح في العراق، فإن فشل المشروع العراقي المدعوم أميركيا، وهو عقلا أمر محتمل، وسحبت أميركا وحلفاؤها قواتها من العراق أو تراخت، فإن دول الخليج هي أول من يواجه العاصفة، سواء من القاعدة أو غيرها، وإن نجح العراق والمشروع الأميركي فيه، فإن أول استحقاقات هذا النجاح سيكون مصوبا إلى دول الخليج، وفي الحالتين لا أخال أن لهذه الدول استراتيجية متقاربة لمواجهة الاحتمالين!
لاشك في أن الخليج قد شهد ثورة مستترة وهي انتشار التعليم الذي استمر لأربعة عقود على الأقل، وهناك من القوى البشرية في الخليج ما هو مؤهل وقادر على المنافسة، ولديه من العلم الحديث حصيلة معقولة، بشهادة هذا الجيش من المهندسين والكيماويين والأطباء وغيرهم، وهم يختلفون عن بقية المناطق العربية اختلافين أساسيين، الأول أن هذه النخبة مازالت قائمة لم تلحقها تصفيات وإبعاد أو إجبار على الرحيل، كما لحقت بمجموعات النخب العربية في البلدان الأخرى، والاختلاف الثاني هو توافر الوسائل الحديثة للاطلاع على العالم، وهو أمر توافر بسبب الوفرة المادية، ولم يكن متاحا للنخب في الكثير من البلاد العربية.
في زيارة أخيرا لجامعة العين في دولة الإمارات وجدت أن الطالب يستطيع أن يحصل على كل الدوريات في تخصصه، وخصوصا الغربية بكبسة زر كما يقال، أي من خلال تلك الآلة السحرية "الإنترنت" وهو يتكرر في الكثير من الجامعات في الخليج، ويصعب على الطالب العربي في الكثير من البلدان العربية الأخرى الحصول على مثل هذا الامتياز العلمي، والحبل على الجرار. فهناك آلاف الطلبة في الخارج وعشرات الآلاف في الداخل الذين تحتضنهم الجامعات ليس الحكومية فقط، ولكن الأهلية التي تتناسل بسرعة على ضفة الخليج الغربي.
ومازالت الشكوى، وهي شكوى صحية، بشأن قصور التعليم الحديث في الخليج عن الوفاء باحتياجات متطلبات التنمية المتسارعة، ومازالت الخطط توضع لتجويد الأداء التعليمي في مختلف المراحل وعلى جميع المستويات، فإن وصفنا كل ذلك بالثورة العلمية، فهو وصف ليس بعيدا عن الواقع. يرى البعض أن التغيير في المنطقة العربية قد يأخذ شكلين، تغيير هادئ ومنظم ومرحلي وقد يحدث في الخليج، وتغيير عنفي في بلاد الشرق العربية، ربما هي نظرة متفائلة، ولكنها ممكنة إذا قيض لمتخذ القرار في الخليج الإقدام على اتخاذ القرار الصعب الحالي، قبل أن يصبح الصعب مستحيلا في المستقبل.
لقد كانت زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كونداليس رايس، أخيرا للمنطقة مؤشرا للإصرار الأميركي لإحداث التغيير، وقد يبدأ البعض بالتقليل علنا عما ترغبه الولايات المتحدة، إلا أن الواقع الموضوعي يقول إن رغبات الولايات المتحدة في هذه الفترة من الزمن، هي رغبات واجب الأخذ بها، أو الاعتراف بوجودها على الأقل، إن لم يكن تنفيذها، فالعالم يحتاج إلى بعضه بعضا كما لم يحتج في السابق، سواء للتبادل الاقتصادي أو الحرب على الإرهاب أو حتى جلب التأييد لإقامة دورة رياضية، كما فعل جاك شيراك أخيرا، عندما سافر إلى سنغافورة لإقناعها بتأييد باريس كحاضنة للدورة الأولمبية في العام .2012
في الخليج هناك قضايا ملحة أكثر كثيرا من إقامة دورة رياضية، إنها إقامة المجتمع المتكافل، والاقتصاد المنتج والاستقرار، ألا يستحق كل ذلك بذل الجهد، وترك التقاعس، والتسامي على المنغصات الصغيرة؟
في تقديري أن ذلك يستحق العناء، لأن الخيار الآخر هو خيار مسكوت عنه الآن... ولكنه يمكن أن يحدث من دون مقدمات.
لهذا، فإننا محتاجون إلى وضع سيناريو يحسب من دون عواطف، إمكانات النجاح واحتمالات الفشل في مسيرة شبت عن الطوق وأصبح رصيدها من السنين ربع قرن، ذلك هو التحدي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1026 - الإثنين 27 يونيو 2005م الموافق 20 جمادى الأولى 1426هـ