خاضت الولايات المتحدة أكثر الحروب الأهلية دموية في العالم، حتى انتصر شعبها في صراعه مع الأرستقراطيين. وما جرى هناك انما كان في الأصل حركة عصيان ضد الاستعمار، أدت إلى الانفصال عن الإمبراطورية البريطانية وإعلان الاستقلال. مع ذلك استمر الرق ومذابح الهنود وصمة عار في جبين أميركا، وظل مفهوم المساواة والمجتمع الانصهاري لا يشملان الهنود الحمر والسود، فهما خارج سرب الديمقراطية. وظلت أميركا بحاجة إلى قرنين للتشافي من مرض الكبرياء والعنجهية، وعقدة تفوق الجنس الأبيض "الانجلوساكسون".
في عهد لنكولن الذي دعا إلى تحرير العبيد "لأسباب اقتصادية وسياسية"، كان هناك بعض أصناف العبيد يرفضون مغادرة الرق، ويفضلون العيش في الزرائب مع روث البهائم... فما أصعب أن تقنع حمارا بالخروج من زريبته مادام يعتبرها جنة الفردوس!
وفي كل فترة انتقالية يمر بها شعب من الشعوب، يوجد هذا الصنف من العبيد الذين يحنون إلى رائحة الزرائب ويعشقون القيود. فبعد أربع سنوات من الانفتاح السياسي، مازالوا يتساءلون: "هل كان يجب أن نأخذ الحرية قطرة قطرة"؟
هذه الفصيلة من العبيد لا تتصور العيش إلا تحت ضربات السياط. ودعاة القمع والكبت والقتل والتنكيل وتسليط الجلاوزة على رقاب المواطنين، هؤلاء لم يؤمنوا يوما بشيء اسمه ديمقراطية، كتاباتهم تنضح بالتحريض على العودة إلى عصر "أمن الدولة" الذهبي، "يوم كان كل فرد ينام في بيته آمنا"، كالغبي الذي يخلط الرمل مع الطحين. وكأن "أمن الدولة" كان موكلا بملاحقة المجرمين ومهربي المخدرات وسارقي الأراضي وليس السجناء السياسيين والناشطين الحركيين! لا تدري أهو غباء مكنون أم استغباء ثقيل الدم جدا؟
هؤلاء "الفطاحل" عاشوا في وظائفهم الحكومية ثلاثين عاما حتى تعفنوا وتكلست عظامهم، لا يعرفون ما يجري في البلد طوال حقبة أمن الدولة من انتهاكات صارخة لحقوق الانسان وامتهان لكرامة المواطن، كانت مصالحهم خلالها جارية، شربوا وأكلوا حتى أتخموا، فلما أحيلوا على التقاعد المبكر وتسلموا ما تبقى لهم من "حساب"... إذا بهم يتجرأون لأول مرة في حياتهم على الحديث عن الفساد "في كواليس الإعلام". ينصبون أنفسهم "حكواتية" من النوع الممل، عن قصص الحب والغرام في الوزارة، وفضح سبب انهيار شركة السياحة، والاستهزاء بـ "السوبرمان" الذي أمر بتركيب باب كهربائي بمكتبه يستطيع هو وحده فتحه لمن يريد، وعن سر قوة "المرأة الحديدية" التي تعطي ما لا يعطيه الرجال! شجاعة طارئة تنزل على قلوب الجبناء في آخر الزمان!
على ان من محاسن الفترات الانتقالية انها تكشف للشعوب الحية حقيقة من باضوا وفرخوا ثلاثين عاما تحت عباءة "أمن الدولة"، فلما أتيحت فرصة الخروج من تحتها نراهم يطالبون بعودتها في حنين مرضي غريب. قوم لم يعرفوا طعم الحرية فاعتبروها "عبئا علينا ووصمة عار في جبيننا"... وما العار إلا مثل هذه الأصوات النشاز في مسيرة هذا الشعب العظيم. شعب قدم عشرات الشهداء وآلاف المعتقلين من أجل الحرية وولادة الإصلاح... مع ذلك لم يبلغ الحلم في أعراف هؤلاء المتزلفين... ولابد من عودة القيود والأغلال بعد أن أصبحنا "شعبا أصابته تخمة من الحرية"!
هؤلاء المغفلون لم يصدقوا حتى الآن ان محكمة "أمن الدولة" أغلقت أبوابها منذ أربعة أعوام، وأن المسيرات والاعتصامات حق مشروع كفله الدستور للناس للتعبير عن آرائهم والمطالبة بحقوقهم، بطريقة سلمية حضارية تباهي بها البحرين الآخرين. ومع ذلك يعتبرون وقوف بعض رجال الدين في الصفوف الاولى للمظاهرات السلمية تأجيجا للفتن، وينسون أن هؤلاء يقومون بدورهم السلمي كمواطنين، بعد أن كانوا قبل سنوات يقبعون في السجون جزاء مواقفهم الوطنية، في وقت كان هو يعيش متنعما في فردوس وزارة الإعلام الطاهرة النقية، لا يسمع ولا يرى ولا يشم الروائح، وما تجرأ على الحديث عنها إلا بعد أن مهد له ولغيره الطريق هؤلاء الشرفاء المضحون من أجل الوطن.
صعب على جماجم هؤلاء أن تخترقها فكرة المطالبة بالحقوق، حتى لو عاشوا مئة عام في هذا البلد، وعبثا تحاول أن تقنعهم بأن التظاهرات "حق" للشعب غير قابل للتفاوض، وأن محكمة أمن الدولة أغلقت أبوابها منذ أربعة أعوام. ومن العار في عهد الانفتاح أن يتطاول أحد الخاملين على الحركة الوطنية ويتهمها بامتهان الفوضى. فإذا سادت فصيلة العبيد...على الجمعيات السياسية أن تتخلى عن وظيفتها وتترك السياسة للشجعان الطارئين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1026 - الإثنين 27 يونيو 2005م الموافق 20 جمادى الأولى 1426هـ