ما كادت نتيجة الانتخابات الرئاسية الإيرانية تخرج من صناديق الاقتراع حتى بادرت واشنطن إلى شن حملة تصريحات مضادة تهدد الناس على اختيارهم الديمقراطي. فالتصريحات غير مسئولة ومتسرعة في استنتاجاتها. كذلك تشير إلى وجود خطة مبرمجة تنتظر ذريعة معينة حتى تستخدمها لإثارة البلبلة في إيران ودفع علاقاتها مع دول الجوار إلى حال من التوتر وعدم الاستقرار.
التصريحات الأميركية اعتبرت التصويت الإيراني إشارة سياسية موجهة ضدها، ولم تقرأ جيدا العامل الاجتماعي "الداخلي" الذي فرض على الناس هذا النوع من الاختيار. فواشنطن رأت في النتيجة مجرد خطوة تصعيدية ضد استراتيجيتها في المنطقة، وتجاهلت وجود عوامل متنوعة تقف وراء مثل هذا التصويت.
تغييب العامل الداخلي في اختيار الناس يشكل نقطة ضعف مهمة في السياسة الأميركية الخارجية. وتغليب النزعة الخارجية في تصورات إدارة البيت الأبيض أدى إلى نمو نزعة تسلطية "تدخلية" لا تأخذ في الاعتبار حاجات الناس ورغباتهم ونظرتهم الخاصة للأمور.
واشنطن ترى العالم من منظارين: معي أو ضدي. بينما مصالح الناس وتطلعات الشعوب لا تقرأ السياسة من هذا المنظار الثنائي. فهناك الكثير من الهموم والحاجات والتطلعات لا تتفق بالضرورة مع ذاك النسق الأميركي في التفكير.
فئات الناس في إيران حين توجهت إلى صناديق الاقتراع لم تقرأ الاستراتيجية الأميركية وتصوت ضدها أو معها. فالناس تقترع وفق معايير واعتبارات يلعب العامل الداخلي دور المقرر الرئيس في توجهاتها. فالرؤية يجب التعرف عليها من الداخل والتعامل معها وفق تحليل موضوعي يستنتج المواقف من العناصر المحلية التي تصنع القرار وتشكل للناس قناعاتهم السياسية وترسم معالم توجهاتهم الاقتصادية والاجتماعية.
ما حصل في إيران لا يختصر بكلمة واحدة ولا يختزل بشعار أن الناس اختارت الحرب ضد الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. فالمسألة أعقد من ذلك وأوسع من ذاك التقسيم الثنائي: مع واشنطن أو ضدها.
الكلام الذي صدر عن المسئولين الأميركيين بشأن الانتخابات الإيرانية تنقصه الدقة لأنه في النهاية وضع النتيجة كلها في سياق تحريضي يريد إثارة القلق في المنطقة بهدف ايجاد الذرائع السياسية لفرض عزلة مصطنعة، ومعاقبة الناس على اختيارهم.
الكلام الأميركي السلبي ليس خافيا على أحد. فهو يأتي في وقت تذهب إدارة واشنطن نحو تأكيد سياستها المتشددة واصرارها على عدم الاعتراف بارتكاب أخطاء أسهمت في زعزعة استقرار المنطقة وأخذت بدفع العراق نحو كارثة أهلية.
العراق وما آل إليه من انهيار شامل على مختلف المستويات هو نموذج حي على سلبيات سياسة أميركية لا تقرأ سوى مصالحها ولا تجد في قناعات الناس إلا تلك الثنائية الوهمية: مع واشنطن أو ضدها.
التقسيم الأميركي للعالم وتحديدا لما تسميه منطقة "الشرق الأوسط الكبير" أثبت عدم جدواه وبات على شفير الفشل وخصوصا بعد أن أوصلت سياساتها التدخلية في أفغانستان والعراق وفلسطين وربما السودان "دارفور" إلى حالات قصوى من التفكك والانهيار.
إلا أن أميركا كما يبدو مصرة على استكمال استراتيجيتها التقويضية وعدم الاعتراف بالفشل والسير مجددا في خطة "الهروب إلى الأمام". فالإدارة لم تعترف بتقصيرها وإذا اعترفت فهي لا تنتقد نفسها بل تضع اللوم على الدول المجاورة لأفغانستان والعراق وفلسطين، وترى أن فشلها لا يعود لسياستها بل لمواقف تلك الدول وعدم تضامنها مع استراتيجيتها التي تسعى إلى إعادة هيكلة دول المنطقة.
التصريحات الأميركية السلبية ضد "الديمقراطية الإيرانية" ليست بريئة، ولا يمكن وضعها في إطار ردة فعل متسرعة فقط، بل انها تكشف عن توجه تصعيدي يبحث عن ذريعة إقليمية لتوتير المنطقة، وإثارة قلق غير مبرر في دول الجوار بغية تمرير مشروع تقويضي اثبتت التجربة ومجرى الوقائع فشله على الأرض
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1026 - الإثنين 27 يونيو 2005م الموافق 20 جمادى الأولى 1426هـ